مشيت اليوم فى شوارع القاهرة خلف من كان يصارخ بالمايكروفون (لا لبلنة، ولا لبننة) فتخيلته يحذر المصريين من الّلبن، بفتوى يكون قد أصدرها الأزهر الشريف أو الأخوان المسلمون بتحريم مشتقّات الألبان على المصريين فى الانتخابات المصرية..! طبعا، هذا لم يكن صحيحا.. طيب فما هو الصحيح.؟
اليوم فى مصر 5000 مرشح يتنافسون على 508 مقاعد لأحزاب انتخابية، كما بالأمس نافسوا فى لبنان وبعدها فى العراق الذى كاد يدخل الشهر التاسع على الانتخابات، يتجه المصريون اليوم إلى صناديق الاقتراع ليس على غرار ما اتجه العراقيون بالأمس، وأنما أخشاهم (وهو المؤسف) أن يتجهوا إليها بالمنهج اللبنانى الذى رأيناه قبل بغداد فى بيروت مع الانتخابات اللبنانية.
الانتخابات أينما جرت، فهى حالة صحية قد تجرى أى مكان، لكنها عندما تجرى فى مصر ولبنان تجرى معها أعصاب المواطن العربى المقيم والمغترب مثلما يجرى دمه فى عروقه، وكأنّ الصناديق وضعت فى غرفة نومه بنواكشوط، أو صالون مرقصة فى دسكوهات سان فرانسسكو، فيضلّ يتابع بيروت أو القاهرة لحظة بلحظة فى سهراته ويقظاته إذا ما جرت فيهما الانتخابات.
المتابع لانتخابات هذه البلدين اعتاد على منهجية الناخب المصرى والناخب اللبنانى كل على حدة، فالمصريون بفئتيه الملتزمون أو الليبراليون أو الأفنديون والبشوات من المسلمين، وغير المسلمين كالأقباط عوّدونا على منهجية الناخب المصرى الذى يبحث لصوته دائما وطيلة العقود الماضية عن الكفاءات المصرية البحتة، وكان عاديا جدا لمصر عبد الناصر والسادات ومبارك أن تقوم قرية قبطية بحتة بانتخاب مرشح مسلم ملتحٍ، أو تجد قبطيا رشّح نفسه وفاز بأغلبية من أصوت المسلمين.
وعلى النقيض تماما، الناخب اللبنانى عوّدنا على منهج آخر ومنذ أربعين سنة، وهى فترة أنا شاهد عليها بكامل وعيى ورشدى، أنه يتريّث بصوته على باب الخيمة متأنيا فى ثوب المرشح وجُبّته وعمامته وقلنسوته، ليتأكد إن كان يصلى مكتوف اليدين أو يطلقهما، إن كان مسيحيا أو درزيا، مسلما شيعيا أو سنيا..! وهذا ما قصدته بعنوان مقالى "شرب اللبن حرام فى الانتخابات..."..!
ما حصل فى مصر هذه المرة قبيل الانتخابات من موت قبطى أقلقنى، أنه مريب ومشابه لما يحصل عادة من الاحتقان الطائفى فى لبنان قبيل الانتخابات، أخشاه هذا الاحتقان أن ينتقل إلى انتخابات مصر 2010، ولن يبق مبتدأ انتهى على خبر، لأنه الاحتقان الطائفى الذى يخشى منه وعليه، إنه السلاح المستورد إلى مصر له مصدّروه فى الخارج فلا تروّجوه فى الداخل.
أنا واثق أن المصريين لن ينضمّوا إلى مشترى هذا السلاح ومروّجيه، لأن مشتريه يدركون قبل الباعة أن الطائفية لن تحقق الاستقرار للوطن ولا السلامة للبدن، وأنهم سيقفون على كل الأصعدة والمستويات فى وجه الطائفية دون السماح لها المرور على الأراضى المصرية ولو بترانزيت، لأنّ مجرد وصول الاحتقان الطائفى على أراضيها اليابسة، تعنى تشغيل الطاقات المصرية وتجميدها باليابسة بعيدا عن الماء وما ارتفع حوله من التهديد الأثيوبى المشبوه الذى اندلع هو الآخر قبيل الانتخابات.!
السماح للطائفية على الأراضى المصرية فى مثل هذا الوقت ولو بالترانزيت، يعنى أننا سنرجعها إلى زمن الانتصارات الوهمية فى الخارج لنخفى هزائم حقيقية فى الداخل، لأن الطائفية هى الهزيمة الكبرى فى الداخل، والطائفية لا هوية لها ولا وطن ولا مذهب لها ولا عقيدة كما فى العراق الشقيق، قد تجدها بحزام ناسف فى الكنائس والمساجد حينا، وبسيارة مفخخة فى الأسواق والأهرامات فى حين آخر، ثم قد تلقاها أمامك بالمايكروفون بهتافات "يحيى الشعب يحيى الوطن!"
إن الأكواخ التى تفرّخ ثعابين الطائفية لن تتضرر، لأنها تصدّرها إلينا فور التفريخ، إنه استيراد وتصدير ناجح على دوى الطبول، ورابح بألوان زهور صناعية ثمنها أنين الشعب وصراخه، ديكورات من الورق المقوى عليها صور آيات قرآنية تخفى خلفها الخرائب والدمار، الفتوى يصدرها شخص واحد بكامل الحرية، فهو الدكتاتور الدينى الواحد الحر الذى يعتبرا نفسيا ملكا على أرواح ملايين الرجال والنساء، إما انتحارييون وانتحاريات لفتواه، أو أو جثامين ونعوش وتوابيت بفتواه، ثم يعود إلى الكوخ لصياغة وإصدار فتوى جديدة، ويسميه انتصارات تلو الانتصارات..!
يا مصرُ إذا سمحتى لتلك الطائفية أن تتفرخ على أراضيك، فإنك لن تعرفى من أين تجيئك الضربة وتحل بك المصيبة، المواطن المصرى قد يقوم من سريره فيسمع خبرا عن طاعون معد كان يخشاه، لأن هذا الوباء الفتّاك أشد من الكوليرا والطاعون والجمرة الخبيثة وأنفلونزا الطيور والخنازير، قاذوراته دسائس الوشايات ومسامير الأكاذيب، تنتشر بين الناس بسرعة الضوء، فتصيب الأبرياء قبل المرضى، تُدين الأبرياء قبل المذنبين، إنها قد تعاقبك يا مصر على جرم لم ترتكبيه وبقضاة معدومو الضمير يأتوك من الخارج..!
الحياة بجوار النعرات الطائفية كالحياة فى الجحيم، وكما تكره فى الجحيم صراخ جارك إن كان أعلى من صراخك، كذلك ستكره الجيران أن حولت بلدك إلى منجم طائفى، ستخاف من موسى وعيسى وإن كنت على دين أحدهما أو تقمّصت دين الآخر، لأنك ستكون مقيدا فى خطواتك وفى كلماتك، أين ذاهب؟ إلى الكنيسة، إذن اقتلوا الصليبين، لأ لأ مش كنيسة أنا رايح المسجد؟ أى مسجد؟ أين يقع هذا المسجد وايش اسمه؟ وما هو اسمك عُمر أو على؟ الأب يخشى أبناءه يوشوا عليه، ويُطلب منهم أن يتأكدوا إن كان على مذهب فلان أو علاّن، والزوجة المحتاجة قد تُدفع لها دولارات لتراقب زوجها هل يشاهد أفلام صناعة الصليبين الهوليوود، وإن كان من المعجبين بالطرب والغناء وبالممثلات الأجنبيات؟ وهل يخفف لحيته وشواربه أو يقرأ روايات نجيب محفوظ ولا يكفّره ولا يعتبر طه حسين ملحدا.!
وبذلك تكون قد أدخلت الطائفية إلى صالون بيتك وغرفة نومك، إن كنت سمحت لها المرور على أراضيك ولو بالترانزيت.!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة