ننشر فصلاً من "ودع هواك" لأشرف عبد الشافى

الثلاثاء، 21 ديسمبر 2010 08:30 م
ننشر فصلاً من "ودع هواك" لأشرف عبد الشافى أشرف عبد الشافى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
"اليوم السابع" ينشر فصلاً من رواية "ودع هواك" لأشرف عبد الشافى الصادرة عن دار ميريت والتى تعتبر شهادة إبداعية عن الواقع الحزبى فى مصر..

"هل سيغضب أحد منى، أو يسخر إذا قلت إننى كنت أحب الحزب الناصرى، وأن عدم انتمائى إليه اعتراضا على أن يتحول هذا الكيان العظيم ـ بالنسبة لى على الأقل ـ إلى مجرد بطاقة عضوية أضعها وسط الأوراق؟!

كنت أراه أعظم وأنبل من ذلك فهو الحزب الذى سيقود البلاد فى يوم من الأيام، وكان يوم انضمامى لصحيفة الحزب واحدا من تلك الأيام التى أحفظ أحداثها حتى الآن.

صدقونى أرجوكم، فأنا الآن وبعد أن عرفت أننى محول للتحقيق لسبب تافه وحقير لا يليق بحزبى العظيم، ينتابنى إحساس بالهزيمة، تأملوا معى كلمة هزيمة عندما يقولها رومانتيكى مثلى، إنها قاسية ومؤلمة مثل: "خيانة، وبيع ضمير، وعمالة، وأمن دولة، ومرتشي، وبتاع حكومة، وفاسد".. مهزوم هزيمة العاشق الذى تنتهى قصة حبه لفتاة حالمة رآها ملاكا قبل أن يراها فى أحضان رجل آخر.

أشعر الآن بعينى تائهتين مكسورتين، ويبدو وجهى محتقنا ببكاء حارق فى انتظار لحظة انفجار تشبه تلك التى أطلقتها عندما رسبت فى الثانوية العامة، كنت أجرب الرسوب للمرة الأولى بعدما كنت أراه شبحا بعيدا عنى تماما، بل ويخص أشخاصا آخرين.

عشر سنوات وأنا أحب هذا الحزب، عملت فى صحف عديدة لا لشيء إلا لأن رؤساء تحريرها ناصريون، لم أفكر لحظة واحدة فى العمل بعيدا عن صحيفة تحمل على صفحتها الأولى صورة للزعيم.

لكن كل ذلك ينهار الآن وأنا أستعد لتحقيق مطول ورسمى بحضور رئيس الحزب نفسه لسبب كاريكاتيري، وكأننا لا ننظر إلى ساقينا إلا بعد أن يدهسهما قطار سريع.

انعكست الصور ورأيت نفسى فى حجم رأس الدبوس وأنا أعود حزينا ذات يوم لأننى لم أشارك فى حمل رئيس التحرير على كتفى فى مظاهرة شاركنا فيها أيام حرب الخليج الأولى، كان مهيبا، قويا، يضرب الهواء بقبضة يده بينما الكرافتة النبيتى بخطوطها البيضاء مفكوكة حول عنقه، غير مبال بجاكت البدلة الكحلى ولا بشعره المشعث:

"سامع صوت الشعب الثاير بيقول بس كفاية مذلة.. نفس الصوت اللى ف بغداد بيقول شد الحيل يا رام الله".

أضحك الآن على نفسى والذاكرة تتواطأ ضدى وتعرض مشهدا لى وأنا أهتف فى نقابة الصحافيين: "يا حرية فينك فينك أمن الدولة بينى وبينك"، كنت سعيدا، أشعر بالعرق باردا يسيل بهدوء على خدى منسحبا من فروة الرأس ومتجمعا حول ذقنى وحاجبى ومنهما إلى رقبتي، كانت رواتب زملائنا المعينين بالصحيفة قد تأخرت أربعة أشهر، ومكافآتنا نحن غير المعينين زاد تأخيرها على الشهر الثامن، وبعد مداولات وتردد وافق رئيس التحرير ورئيس مجلس الإدارة على الاعتصام بمقر النقابة لنلعب مع الحكومة نفس لعبتها: نضغط عليها مثلما تخنقنا كى نصاب بالإحباط واليأس ويتم إغلاق الصحيفة، صحيفتنا التى تزعجهم ليل نهار وتسرق النوم من عيونهم وتكشف سرقاتهم لهذا الوطن، وبالتالى لم يجدوا طريقة لإغلاقها وإسكات أقلامها سوى التضييق عليها ماليا، بحرمانها من الإعلانات أولا، ومطالبتها بالديون المتراكمة عليها فى المطابع ثانيا.

ولا أعرف لماذا لم أفكر فى هذه النكتة المضحكة مطلقا: الحكومة تدفع لنكتب ضدها، ثم تتحمل تكاليف الطباعة، وتبحث لنا عن مصادر تمويل عبر إعلانات وزاراتها: "الصحة والسكان والبترول والثقافة"، ونحن ننشر هذه الإعلانات فى الصفحة الأولي.. ثم نتظاهر ضدها!

كنت ساخنا جدا، يعلو وجهى غضب لا يخلو من الأسي، واللافتات الضخمة خلفى بخط الرقعة الأحمر "مش ح نطاطى مش ح نخاف لو ح ناكل خبز حاف"، "لا لسياسة العصا الغليظة".

كل ذلك أراه الآن فقط وأنا أخرج من مكتب المدير العام الأستاذ "شعبان حسن" بعد أن أخبرنى بموعد التحقيق.

فى ذلك اليوم المشئوم استقبلنى الأستاذ "خلف نور الدين" الذى يعمل ناقدا سينمائيا فى الصحيفة، وهو ـ وله العذر بسبب ضعف نظره الشديد ـ يكتب النقد دون أن يذهب لمشاهدة الفيلم، مكتفيا بقراءة ما كتب فى الصحف الأخرى، لكنه وفى تحدٍ حقيقى يبحث فى كل المكتوب عن خيط يناسب الصحيفة حتى يكشف الزيف والادعاء أو الترويج لأفكار معينة عن الأمركة والتطبيع، فالسينما تلعب لعبة خطيرة فى هذا الشأن، والأستاذ خلف ـ رغم خلافى معه ـ كان عملاقا فى هذه المسائل، وكشف عن محاولات سينمائية عديدة لإلغاء فكرة الهوية العربية والمشروع القومى والوحدة العربية، وعقد مقارنات عديدة بين أفلام التسعينيات وتلك التى قدمتها السينما فى الستينيات فترة العزة والكرامة ومقاومة الاستعمار، وكنت أحترم فيه ثقته المفرطة فيما يكتب وفيما يصل إليه من أفكار صريحة وجريئة وحاسمة لا تقبل القسمة على اثنين، ولعل ثقته هذه فيما يكتب هى التى دفعته لقص مقالاته وتصويرها فى أحجام كبيرة ووضعها تحت زجاج المكتب حول صورة له وهو يسند وجهه إلى كفيه سارحا، متأملا فى الحياة، أو وهو يمسك ذقنه بإصبعيه.

وتاريخ الأستاذ "خلف" ناصع البياض، فهو من أبرز قادة مظاهرات 18 و19 يناير، ولولا أنه يرفض المناصب لكان الآن أحد قادة الحزب، فهو أكثر المنتمين إليه بصدق وتشهد مواقفه العديدة على ذلك، ويكفى أنه تصدى للكاتب "أنيس منصور" ثلاث مرات حتى قبل أن يصدر الحزب صحيفته، ونشرت له الأهرام نفسها فى صفحة البريد أحد هذه الردود، وكان تعيينه فى الصحيفة مكسبا حتى لو لم يكتب النقد.

ورغم تقديرى هذا له كنت أعرف أنه لا يستريح لي، ولكن فى ذلك اليوم المشئوم رأيت فى عينيه كراهية وغلا لم أرهما فى عينى أحد من قبل، ويبدو أن دماثة خلقه وأدبه الجم كانا يمنعانه من إبدائهما.

يا أهلا يا سعيد بيه، عشان أنا لما قلت اللى ما يعرفوش مقر الحزب فين ما ينفعوش يكتبوا فى جرنان عبد الناصر ما حدش صدقني، ولما قلت إنك صغير على حكاية سكرتير تحرير دي، وإنك مش عضو فى النقابة، قالوا لى أنت مش عايز حد يكبر، أديك كبرت يا سيدى وعملت مصيبة سودا.

ـ مصيبة إيه وبتاع إيه يا أستاذ "خلف" خلصنى.

ـ دُوست على "عبدالناصر" برجليك يا أستاذ.. حضرتك دوست ع الزعيم وحطيت "النحاس" اللى باع البلد للإنجليز والملك فوقيه كمان.

ـ إزاى يعني؟.

ما شفتش الجرنان إياك؟ ما شفتش صورة "النحاس" كام وصورة "عبد الناصر" كام؟ اتفضل يا بيه، المدير العام مستنيك.

دخلت مكتب الأستاذ "شعبان حسن" الفخم الذى أشعر كلما دخلته أننى فى مكتب طيران، وقبل أن ينتهى أنفى من استنشاق رائحة البارفان المخلوط بالبخور وجلد المقاعد، هبّ من مكانه:

ـ أنت فين يا سيدى؟ إيه اللى عملته ده؟

ـ يا أستاذ شعبان أنا لغاية دلوقتى مش فاهم حاجة.

ـ مش فاهم.. ؟!، يعنى يا أستاذ لما تنزل صورة عبد الناصر أصغر من صورة النحاس بخمسة سنتى فى جرنان عبد الناصر يبقى شكلنا إيه؟، دى مسئوليتك ولا مش مسئوليتك؟ إحنا خليناك سكرتير تحرير من غير تعيين عشان تهين الزعيم؟.. بتضحك؟! بكرة الساعة حداشر الصبح تكون هنا يا أستاذ.. رئيس الحزب جاى بنفسه عشان التحقيق..".








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة