هى ليست المرة الأولى التى تتفضل الإدارة المصرية الموقرة، نتيجة عجزها وارتباكها وقلة حيلتها، من خلق زعماء جدد للسياسة والشارع فى مصر، وأتمنى أن ألتقى يوما بهذا العبقرى الذى قرر يوما ما أن تقود الصحف الحكومية تلك الحرب الغبية على البرادعى، فهذا العبقرى بقرار واحد انتقص كثيرا من قيمة الإدارة المصرية وأعطى ما أخذه منها للبرادعى ليصبح فجأة رجلا فى مواجهة إدارة بأسرها، يساويها فى القيمة ويعادلها فى القوة ويصلح بديلا طبيعيا لها.
أتمنى أيضا لقاء العبقرى الآخر الذى قرر أن تنشغل الدولة كلها بمؤسساتها الأمنية والإعلامية برفض خروج المصريين إلى مطار القاهرة لاستقبال البرادعى داخلا إلى مصر، وهو رجل حاد الذكاء أحال وصول البرادعى للقاهرة من مشهد طبيعى وعادى لن يلتفت إليه الكثيرون إلى مشهد استثنائى وفاصل وهو ما يعنى أننا أصبحنا أمام إدارة مصرية تجيد ارتكاب الأخطاء والخطايا، وتحترف صنع الخصوم والأعداء والزعماء، وأكاد أجزم أن هذه الإدارة ليس فيها من استوقفه هذا الاهتمام الشعبى بالبرادعى وما يعنيه كل هذا الاهتمام وهذه الحفاوة، فقد عاشت هذه الإدارة سنين طويلة، وهى تتخيل أنه لا خصم لها إلا الإخوان المسلمين، هم العدو الحقيقى الذى يستحق أن تحشد له الإدارة كل أسلحتها من أمن للدولة إلى إعلامها وجميع إمكاناتها.
وكانت الإدارة المصرية مضطرة للاستسلام لهذا التصور، فليست هناك انتخابات عادلة تقام إلا ويفوز بها الإخوان، وليس هناك أى أحد يتبع هذه الإدارة قادر على مواجهة أى وجه يرفع راية الإخوان مهما كانت الفوارق الشخصية بين الاثنين، وفجأة، يجىء محمد البرادعى، وحين قررت الإدارة المصرية دون أن تقصد أن تحيله من عالم راق وقدير لكن لا أحد فى الشارع يعرفه، إلى زعيم سياسى ورئيس محتمل لمصر، التف كثيرون جدا حول البرادعى، رفعوا لافتات تحمل اسمه وصورته، منحوه ثقتهم واختيارهم وقرارهم، فماذا يعنى كل ذلك؟
يعنى ببساطة أن كل ما جرى فى الماضى بكل حروبه وصداماته، لم يكن انتصارا حقيقيا للإخوان بقدر ما كان هزائم حقيقية متتالية للإدارة المصرية، يعنى أن الناس باتت ترفض الإدارة ووجوهها، وهذه هى الحقيقة الوحيدة المؤكدة، ولهذا فالناس على استعداد للتعاطف مع أى أحد يقرر الوقوف ضد هذه الإدارة، ولأنه فى أوقات كثيرة لم يجد الناس من يقوم بهذا الدور إلا الإخوان، فقد كانوا يمنحون الإخوان اختيارهم وأصواتهم مهما كان نوع الانتخابات ومكانها وطبيعتها، وحين يظهر فى الأفق رجال مثل البرادعى، ينالون نفس ما سبق أن ناله الإخوان من تأييد ومبايعة.
المسألة إذن ليست «إخوان» وليست قدرات خرافية يملكها الإخوان ولا يملكها غيرهم، إنما هى إدارة مصرية لا تزال تطرح للناس وجوها يرفضونها، لا تزال تبنى فى كل يوم سورا جديدا بينها وبين الناس، إدارة لا تزال تتخيل أن ساحة المعركة هى صحف الحكومة فى مواجهة صحف خاصة، برامج توك شو خاصة فى مواجهة إعلام حكومى.
بينما الحقيقة تبقى أن الساحة الحقيقية للصراع هى الشارع الفقير الذى لا يقرأ الصحف ولا يشاهد برامج التوك شو، فالصراع على رغيف العيش وأنبوبة البوتاجاز ومقعد فى الميكروباص وأى وظيفة مهما كان شكلها وعلاج مجانى لأوجاع لم تعد محتملة، لم يعد صراعا يسمح لكثيرين بالانشغال بتحقيقات الصحف وكتاباتها أو صراعات الشاشات وقضاياها.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة