◄◄ أول ما بتوع الثورة شموا نفسهم «رجعت ريما لعادتها القديمة» ورجع شبح صلاح نصر وحمزة البسيونى يطاردنا فى الصحو والمنام
◄◄ بعد علقة محترمة فى السجن كتبت: فى المعتقل يا سلام سلم.. موت واتألم.. لكن لمين راح تتظلم.. والكل كلاب
◄◄ كتبت قصيدة فى السجن وبعتّها للشيخ إمام.. وتانى يوم سمعته فى الراديو بيغنى لابن الفارض
◄◄ المخبر محمد عيسى ضربنى بعصى الخرزان على كفوف قدمى ولو قابلته بعد 20 سنة ح طلعه من وسط ألف
◄◄ سألنى الضابط: إنت اللى كاتب أغنية «حطة يا» فقلت: لأ دى اللى كاتبها سيد حجاب فقال: إحنا سألنا الأستاذ سيد وقال إن اللى كاتبها أحمد فؤاد نجم
فى الحلقة الماضية من الجزء الثالث من مذكرات الفاجومى روى الشاعر أحمد فؤاد نجم عن تجربة حبسه فى قسم إمبابة، ووصف لحظات الموت والرعب والخوف من أن يكون مصيره مثل شهدى عطية الذى تم تعذيبه حتى الموت، أو مثل مصير لويس إسحق الذى قتل فى يوم الإفراج عنه، وفى داخل القسم كان نجم على موعد مع المتناقضات، ففى البداية عامله السجانون والضباط معاملة سيئة، ونزعوا عنه ملابسه وشتموه وعرضوه عارياً على الضابط، وفى أول ليلة له بات على أسفلت السجن الذى كان مبقعا بالدماء، وبلا مقدمات نقلوه إلى غرفة فاخرة مفروشة بالملاءات النظيفة، وأتوا له بإفطار فاخر من الجبن الأبيض والعيش النظيف والبيض المسلوق، وعلى حوائط السجن استأنس «نجم» بالمكتوب عليها من كتابات المساجين السياسيين السابقين، ثم دخل عليه الضابط واستأذنه فى الجلوس وتحدثا، وطلب الضابط من نجم بطريقة غير مباشرة أن يتحدث معه عن أصدقائه والتنظيمات التى يجريها، فماذا فعل نجم؟ هذا ما سنعرفه فى هذه الحلقة.
فجأة فتح باب الزنزانة ودخل منه الرائد سمير حسنين ودا الشخص الوحيد اللى ارتحت له من ساعة ما دخلت المخروب ده وقال لى:
- انت رايح التحقيق دلوقتى وأنا أنصحك إنك تتكلم عشان مايحرقوش المراكب!
وخرج وقفل وراه باب الزنزانة. أنا بصراحة بعد البق ده فصلت زى التلاجة الايديال - تقفيل مصر - وبدأ المنولوج الداخلى يشتغل. أتكلم أقول إيه؟ ومراكب إيه اللى حيحرقوها؟ ومين هما دول أصلا اللى حيحرقوا المراكب وقدر إنهم حرقوا المراكب. طب وأنا مالى؟ وبعدين تحقيق إيه اللى أنا رايحه؟ يكونوش عاملين لى قضية تنظيم سرى لقلب نظام الحكم بالقوة المسلحة؟ ودا عقوبته الإعدام! يا نهار منيل بستين نيله. بس إزاى تنظيم سرى وأنا كلامى كان بيتقال بعلو صوت الشيخ إمام وفى وسط المئات والآلاف اللى كانوا أحيانا بيرددوا ورانا بمنتهى الحماس!
يا شغالين ومحرومين
يا مسلسلين رجلين وراس
خلاص خلاص
مالكو مش خلاص
غير بالقنابل والرصاص
دا منطق العصر السعيد
عصر الزنوج والأمريكان
الكلمة للنار والحديد
والعدل أخرس أو جبان
صرخة چيفارا يا عبيد
فى أى موطن أو مكان
مافيش بديل
مافيش مناص
يا تجهزوا جيش الخلاص
يا تقولوا ع العالم خلاص
المهم خلينا من اللى فات ونركز ع التحقيق أنا المفروض من المنتفعين بثورة يوليو ولما أقول فى التحقيق أنا مع الثورة ما أبقاش كداب لكن ما هم خميس وبقرى عمال كفر الدوار الغلابة كانوا من المنتفعين بثورة يوليو وأكيد كانوا معاها ومع ذلك شنقوهم! ياريتنى كنت زى عدلى لملوم الإقطاعى اللى قاوم قانون الإصلاح الزراعى بالسلاح ومع ذلك ماشنقوهوش حكموا عليه بالسجن وسمعنا ان أمه بنت لها ڤيلا قدام السجن عشان ما يوحشهاش! طب انتوا مين بالضبط يا بتوع ثورة يوليو؟ معانا ولاّ علينا؟ إحنا اللى قدمنا ولادنا شهدا وغطينا بجثامينهم الطاهرة رمال سينا من رفح لقناة السويس وياريتهم راحوا فى حرب بحق وحقيق إلاّ يا والداه راحوا فى مؤامرة لسه ماتكشفتش جوانبها إلى يومنا هذا ولما المركب غرقت إحنا اللى طلعناها ولما هربوا الچنرالات والقائد تنحى إحنا اللى نزلنا الشارع وحرسنا مصر واحنا عزل إلا من حناجرنا اللى كانت بتزلزل الأرض وترج السما «حنحارب حنحارب حنحارب» تقوموا أول ما تشموا نفسكم تنداروا علينا ترجع ريما لعادتها القديمة ويرجع شبح صلاح نصر وحمزة البسيونى يطاردونا فى الصحو وفى المنام.. الله يخرب بيوتكم ويخلصنا منكم على خير.
وبعد هذه الجملة لقيت نفسى أمام المحقق: شكله كريه وشيبته زرقا ومكعبر فى بعضه لا هو قصير ولا طويل حاولت اصطاد عينه ماعرفتش لأنه فاجأنى
- انت حتقول كل اللى احنا عايزينه وبالذوق
قلت له:
- دانت بقى عايز تعلقنى على مشنقة
فلمعت عيناه وقال وكأنه يحدث نفسه لكن سمعنى
- دا عارف بقى
ثم نظر لكاتب التحقيق الذى يجلس وأمامه رزمة أوراق وابتسم ثم قال لى
- اتكلم بقى
قلت له:
- أنا من أبناء ثورة23 يوليو
ضحك وقال لى:
- كل العملاء والجواسيس بيقولوا كده
قلت له:
- بس أنا مش عميل ولا جاسوس
فقال بصوت عال:
- نزل رجليك
أنا أصلى كنت حاطط رجل على رجل ودى قعدتى العادية نزلت رجلى من باب «إن كان لك عند الكلب حاجة..» راح مادد إيده ومطلع من جنبه رزمة ورق وقعد يقلب فيها وسألنى
- انت اللى كاتب بقرة حاحا
قلت له:
- أيوه
- وانت اللى كاتب خبطنا تحت بطاطنا؟
قلت له:
- أيوه
قال لى:
- وانت اللى كاتب يا عم ياللى انت غصبن عنا؟
قلت له:
- أشوفها
مدلى إيده بالورقة خدتها منه لأن القصيدة دى بالذات كنت سمعتها أثناء سهرتنا أنا والشيخ إمام فى منزل مستشار فى جاردن سيتى - نسيت اسمه - وكانت قصيدة دمها خفيف وبعد نهاية السهرة دورت ع الراجل اللى قالها لقيته مشى هو كان بيقراها من ورقة فى إيده يعنى مش بتاعته وفضلت بعدها أحاول العثور على هذه القصيدة دون جدوى والقصيدة موجهة للرئيس جمال عبدالناصر شخصيا ويقول مطلعها:
يا عم ياللى انت غصبن عنا ريسنا
ياللى اليهود لوصوك
وإحنا معاك لصنا
والقصيدة تحوى كما كبيرا من الأباحة المصرية خفيفة الدم جدا مثلا:
يا عم ياللى الإله لجلك مخصصنا
تسمح نميل ال... اس
وتقوم تب.. صنا
وأثناء اندماجى مع القصيدة ضحكت فصرخ فى وجهى:
- بتضحك على إيه؟ هو دا شعر؟
قلت له:
- عفوا أنا مانيش ناقدأدبى أنا مجرد شاعر
فقال لى بغيظ:
- ولا انت كمان شاعر
قلت له:
- خلاص اللى تشوفه سيادتك بس دى مش قصيدتى
خطفها منى وبص فى رزمة الورق اللى قدامه وسألنى:
- انت اللى كاتب يا أم المطاهر؟
قلت له:
- لأ دى قصيدة الأستاذ محمد جاد الرب على
بص فى الورق وقال لى:
- تقصد إيه بالبلى بِم بِم
قلت له:
- سيادتك تقصد البلى بَم بَم بفتح الباء
قال لى بمنتهى القرف:
- خلاص يا سيدى مغلطناش فى البخارى
قلت له:
- دى أنا واخدها عن الحاج محمود البنهاوى
قال لى بلهجة انتصار:
- أيوه بقى مين الحاج محمود البنهاوى
قلت له:
- دا فنان مسرحى تلقائى نادر المثال.
قال لى بقرف:
- أنت حتحكى لى قصة حياته: كان ساكن فين؟.
قلت له:
- الحقيقة أنا ما اعرفش عنوانه بالظبط.
قال لى:
- أنت حتستعبط؟ ماتعرفش عنوانه إزاى! أمَّال كنتوا بتتقابلوا فين؟
قلت له:
- قدام قهوة «أفندية» اللى فى سيدنا الحسين.
قال لى:
- يعنى كنتوا بتعقدوا اجتماعاتكم فى القهوة.
قلت له:
- لا يا أفندم اجتماعات إيه دنا كنت باروح يومياً عشان اتفرج ع العرض المدهش اللى كان بيقدمه هناك.
قال لى:
- عرض إيه؟
قلت له:
- كان بيبيع الشربة العجيبة.
قال لى:
- ودا بنسميه فنان؟
قلت له:
- عبقرى وكفاية انه كان بيثبتنا فى أماكننا طول ما هو بيعرض وكان العرض أحيانا بيستمر ساعة كاملة واحنا سيادتك مابنطلعش النفس وعنينا متشعلقة بيه فنظر نحوى بكراهية يطل من عينيه الرماديتين وقال:
- دا اسمه تهريج مش فن دا نصب واحتيال.
قلت له:
- بسم الله ما شاء الله وسيادتك بتفهم فى كل حاجة أهه
بص فى الورق اللى قدامه وقال:
- وحطه يا بطة أنت اللى كاتبها.
قلت له:
- لأ دى اللى كاتبها الأستاذ سيد حجاب.
قال لى:
- كداب احنا سألنا الأستاذ سيد حجاب وقال أن اللى كاتبها أحمد فؤاد نجم.
قلت له:
- هدية مقبولة من الأستاذ سيد حجاب وأنا أتحمل مسئوليتها وهنا فقط فهمت نظرة حجازى ليلة تلحين القصيدة.
> > >
عائداً من التحقيق دخلت زنزانتى رقم 2 ولأول مرة منذ القبض على ليلة خمستاشر مايو أحس بمرارة القهر بعدما تخلصت من الرعب الذى استولى على مشاعرى وحولنى إلى كائن ضعيف يستقبل فقط دون اى رد فعل! الآن بدأت أتماسك استعداداً لرد الفعل بالشعر الذى لا أملك سواه وفضلت استعيد ما حدث فى مكتب التحقيق وعلى وجه الخصوص صورة الراجل المكعبر فى بعضه اللى كان بيحقق معايا ونظرات الكراهية التى وجهها نحوى على طول وقت التحقيق وقيامه بعد انتهاء التحقيق ونظرته للرجل الذى كان يكتب الأسئلة والأجوبة وبمجرد اختفائه اقتحم مجموعة من المخبرين الحجرة وهجموا علىّ وطرحونى أرضاوأمسكوا برجليا بعد أن أصبحت فى الوضع الملائم لتلقى الضربات على كفوف أقدامى ثم تقدم أحدهم وفى يده عصا خيرزان غليظة إنهال بها على قدميا، وأثناء هذه العملية لقطت اسم المخبر «محمد عيسى» كان يضربنى على كفوف القدمين وكمان لقطت وشه ولو شفته بعد عشرين سنة ح أطلعه من وسط ألف مخبر خصوصاً وأن عنيه ملونة مش سودا - يا ولاد الكااااالب! وحين فكرت فى الرد اكتشفت أنى لا أملك لا الورق ولا القلم وهنا تذكرت جملة سمعتها من الشاعر أحمد مخيمر وهى تقول بأن «الشعر لا ينسى وأن القصيدة التى يكتبها صاحبها وينساها ليست شعرا».
ومن هنا أوجدت الحل لعدم وجود أدوات الكتابة فى الزنزانة رقم اثنين فى معتقل القلعة الشهير وبدأت أقول مطلع القصيدة وأحفظه ودى كانت أول الغيث كما يقول المثل العربى والمطلع يقول:
فى المعتقل يا سلام سلم
موت واتألم
لكن لمين راح تتظلم
والكل كلاب
كلاب حراسة وكلاب صيد
واقفين بالقيد
يكتفوا عنتر وأبوزيد
ويهينو دياب
> > >
وصحيت تانى يوم الصبح وأنا حافظ اللى اتكتب من القصيدة وناوى أكملها بنفس الطريقة وفجأة انفتح باب الزنزانة ودخل على شاب يرتدى الملابس المدنية وقال لى:
- أنا معتقل زميلك ولو عايز تطلع أى رسالة من هنا أنا مستعد أخدها منك وأطلعها.
قلت له:
- بس أنا ماعنديش هنا ورق ولا قلم.
قال لى:
- أجيب لك اللى أنت عايزه مش أنت برضه الشاعر أحمد فؤاد نجم؟
قلت له:
- أنا هو بشحمه ولحمه.
ضحك وقال لى:
- شحمه ولحمه فين قول بجلدة وعظمه.
قلت له:
- على العموم فوت على بكرة أكون مجهزلك الرسالة وبعدما خرج وقفل الباب وراه بدأت أضرب أخماسا فى أسداس.. أنا زنزانتى أمام مكتب الظباط وباب المكتب مفندق على باب زنزانتى يعنى لو نملة عدت حيشوفوها! إزاى بقى ده ييجي يفتح باب الزنزانة ويخش على دون أن يراه أحد! وفين المخبر المعين لحراسة ومراقبة هذه المنطقة فين عبدالمنعم الطبلاوي؟ وانتهيت إلى قناعة أن هذا الشخص هو ضابط أمن دولة وجاى متنكر فى هيئة مواطن مصرى معتقل.. قلت فى عقل بالى:
- طب وماله.. أنا ح ألعب معاهم اللعبة دى.
وتانى يوم دخل على بالورقة والقلم رحت كاتب القصيدة.
وقلت له:
- تبعت القصيدة دى على عنوان المنزل رقم 2 بعطفة حوش قدم باسم الشيخ امام محمد عيسى.
الكلام ده كان حوالى الساعة التاسعة صباحاً وقبل المغرب بوقت قليل وصلنى صوت إذاعة «مع الشعب» والشيخ أمام يغنى قصيدة ابن الفارض:
سائق الأطعان يطوى البيد طى
منغما عرج على كثبان طي
وبذات الشيخ.. عنى
أن مررت بحى
وتلطف وأجر ذكرى عندهم
علهم أن ينظروا عطفا إلىّ
قل تركت الصب فيكم
شبحا
ماله مما يراه الشوق فىّ
وأنا من عشاق سلطان العاشقين «أبوحفص عمر بن الفارض»
لكن الرسالة وصلتنى وفهمتها يعنى الشيخ أمام خلع منى وعمل «دويتو» مع ابن الفارض وأنا بقى أشوف لى بلد خابزة ودى فكرتنى بحركة كانوا بيعملوها الحواة المصريين لما يمسكوا التعبان ويخلعوا أسنانه ويحولوه إلى لعبة من ألعاب الحاوي.
- طيب يا ولاد الكلب أنا وأنتوا والزمن طويل.