◄◄الرائد سمير حسنين قال لى: أول ما أحس إن وجودى فى الأمن حيبقى على حساب مصر ح أسيبه فورا
◄◄ وأنا فى الزنزانة لقيتنى مع ذكريات حلوة عن سهراتنا مع الشيخ إمام فى منزل الدكتور ألبير باسيلى
◄◄ مثلت دور المغفل وطلبت ورقة وقلم عشان أكتب قصيدة «أنا الأديب ولا تعرفنيش»
◄◄ بعت للشيخ إمام جواب من المعتقل أطلب منه تنفيذ الخطة رقم 8
◄◄ قبل ما أعاشر أمن الدولة كنت حمار لابس قميص وبنطلون
◄◄بعد التحقيق معايا ما انتهى كانوا بيسيبوا باب الزنزانة متوارب وكان أى إيراد جديد يمر من أمامى
يواصل الشاعر أحمد فؤاد نجم فى هذه الحلقة الجديدة من الجزء الثالث من مذكراته «الفاجومى»، سرد باقى قصته فى أمن الدولة، والتى تحدث عنها فى الحلقة الماضية، كاشفا فيها الحوار الذى دار بينه وبين ضباط أمن الدولة عند اعتقاله يوم 15 مايو عام 1969، ومنها سؤاله عما إذا كان هو مؤلف قصيدة «حاحا»، وكشف نجم عن المعتقل الذى دخل عليه فى الزنزانة، وعرض عليه إمكانية تهريب أى رسالة له خارج السجن، وبالفعل قام بإرسال قصيدة إلى الشيخ إمام على أمل أن يقوم بتلحينها وغنائها، لكن نجم فوجئ بإمام يغنى فى إذاعة «مع الشعب» قصيدة لابن الفارض، ولا يغنى القصيدة التى أرسلها إليه بالتهريب.
قال له
- تعرف فلان؟
قال له
- أعرفه
قال له
- عاشرته
قال له
- لأ
قال له
- تبقى ماعرفتهوش
أمى هى اللى كانت بتقوللى الحاجات دى من باب العلم بالشىء، وثبت أن نظرية أمى عليها السلام كانت صح، لأنى قبل ما أعاشر أمن الدولة فى سجون ومعتقلات مصر المحروسة، أتارينى كنت حمار لابس قميص وبنطلون ،صيف شتا، وماشى بينهق ويقول بعلو صوته «أنا أجدع حمار فيكى يا مصر يا محروسة» إلى تانى يوم بعدما كتبت القصيدة اتفتحت على الزنزانة عشان أروح دورة المياه، وبعد رجوعى من دورة المياه، وجدت الرائد سمير حسنين منتظرنى فى الزنزانة قلت
- أتارى الزنزانة منورة، وأنا باقول النور دا منين؟
ضحك وقال لى
- طب ما أنت عندك مفردات ناعمة أهه
فهمت الرسالة وقلت له
- فيه من دا على دا.. أمال ح أبقى شاعر إزاى؟
أحيانا بتبقى الكلمة زهرة رقيقة، لما بتبقى رايحة للحبيب، وأحيانا بتبقى الكلمة رصاصة لما بتبقى رايحة للخصم الكفؤ وأحيانا بتبقى الكلمة حذاء لما بتبقى رايحة للحاكم الظالم المستبد، وحاشيته اللى بتحلل له الحرام، وتقويه على ظلم الرعية، وفوق دا ودا بتحرسه وتحميه من غضب المظلومين!
ضحك وقال
- وهما دول بقى كلاب الحراسة وكلاب الصيد اللى فى القصيدة
قلت له
- الله يفتح عليك
وفوجئت بيه بيقول لى
- انت بتحب مصر بطريقتك، وأنا باحبها بطريقتى
ضحكت وقلت له
- صدقنى، أنا قلبى انفتح لك ونفسى أصدقك، إنك بتحب مصر بحق وحقيقى.. نفسى أصدقك
قال لى
- وإيه اللى حايشك؟
قلت له
- طبعا أكيد عَدَّى عليك المثل الشعبى اللى بيقول «تحلف لى أصدقك أشوفك أمورك أستعجب»
بص فى ساعة إيده وقال
- عشان الوقت عايزك تصدق إنى أنا الرائد سمير حسنين، أول ما أحس إن وجودى فى هذا الجهاز حيبقى على حساب حبى لمصر، ح أسيبه فورا ودلوقتى أى خدمة أقدر أقدمها لك قبل ما أمشى
قلت له
- أنا فعلا محتاج لدكتور لأن نزيف القرحة بدأ يشتغل تانى
قال لى
- حالا حيكون الدكتور ميشيل عندك
وخرج وقفل عليا باب الزنزانة، شويتين وسمعت دوران المفتاح فى باب الزنزانة من بره، وانفتح الباب ودخل منه الطبيب وخلفه الممرض محمد حسن، ودا مجند فى القوات المسلحة، وجت قرعته فى معتقل القلعة وبيشتغل فى العيادة، وأول ما دخلوا قال الدكتور
- هات لى السماعة وجهاز الضغط، وأول ما الممرض خرج قال لى
- ألبير بيسلم عليك قوى، وأنا طمنته بس عايزك تساعدنى
قلت له
- هو ألبير باعتك لىّ عشان أساعدك هنا؟
ضحك وقال
- ألبير قال لى إن دمك خفيف
قلت له
- دم إيه يا دكتور! دا ولاد الكلب نشفوا دمى، وهنا دخل الممرض بالسماعة وجهاز الضغط، فساد الصمت، وبعد كام حركة زى وضع السماعة على بطنى تارة وعلى ضهرى تارة، وتكتيفى بالحبل الكاوتش بتاع جهاز الضغط وقراءة العداد، قال لى الدكتور ميشيل
- انت مش كنت بتتعالج بره من القرحة؟
قلت له
- حصل بعون الله وتوفيقه
قال لى
- فين بالضبط؟
قلت له
- فى مستشفى المبره، اللى فى مصر القديمة
قال لى
- عارف اسم الدكتور اللى بيعالجك؟
قلت له
- ناقص تقول لى بقى واسم أمه ومتجوز ولا لأ، ومتجوز من إمتى، وعنده كام عيل واسمهم إيه!
ضحك بشدة وقاللى
- طب خلاص خلاص
وخرج ولقيتنى فى الزنزانة مع ذكريات حلوة عن سهراتنا مع الشيخ إمام، وأنا فى منزل صديقنا الجميل الدكتور ألبير باسيلى طبيب الأسنان المصرى، الذى يسافر كل عام لمتابعة آخر تطورات وإنجازات طب الأسنان فى إنجلترا أو فرنسا أو إيطاليا، وعيادته اللى فى ميدان طلعت حرب لو دخلتها تبقى مش عايز تخرج منها ليه بقى سيادتك؟ عندك أحواض السمك اللى فيها من كل فيلم أغنية.. يعنى أنواع غريبة من السمك، أنا شخصيا شفت عنده أسماك كنت بأشوفها لأول مرة، وغير أحواض السمك تلاقى أحواض الزهور، اللى فيها من الزهور ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وبعدين غير دا ودا همس الموسيقى المنبعثة ما تعرفش منين، واللى أجمل من دا كله، ابتسامة ألبير باسليى اللى تطرد الغضب.. يا حبيبى يا ألبير ما تتصورش الحركة دى عملت فىّ إيه وجملة «ألبير بيسلم عليك» دى كأن مصر كلها بقت معايا فى زنزانة رقم 2 بمعتقل القلعة الرهيب، فبدأت أتماسك وأرجع لأصلى وألعب تمرينات رياضية فى الزنزانة، دا زائد إنى بطلت السهر وتعاطى الحشيش، فبدأت صحتى تتحسن وعلى رأى المرحومة أمى «بدأت الدموية تجرى فى وشى»
وفى هذا الصباح لم يحضر الزميل المعتقل بتاع الورقة والقلم، وتصدق إنى افتقدته؟ وفضلت أضرب أخماس فى أسداس، يا ترى يا هل ترى هل خلع بعدما عمل عملته وسلمهم القصيدة؟ ولا حيرجع تانى؟ أحضر له قصيدة جديدة! عموما قال يا خبر النهارده بفلوس بكره ببلاش، أنا زيهم مستمر فى نظام المكايدة، وفى نفس موعد إذاعة «سائق الأظعان» انفتحت السماعة وجانى صوت الشيخ إمام ينشد على العود
قلبى يحدثنى بإنك متلفى
روحى فداك
عرفت أم لم تعرف
كده برضه يا إمام؟ على العموم كل واحد يعمل بأصله
ورجعت تانى أقول ماتظلمش حبك يا حمار، إمام برضه وحدانى ومكسوف وتلاقيه خايف بعدما قبضوا علىّ وسابوه لا هو حر ولا هو طليق، وأثناء ما أنا سارح انفتح باب الزنزانة ودخل الزميل بتاع الورقة والقلم قلت له
- جيت فى وقتك يا بطل.. انت ابن حلال مصفى
قال لى
- معلشى أنا ماجيتش الصبح لأن الجو كان لبش
قلت له
- عايز أبعت جواب حالا
فنظر نحوى بمنتهى السعادة وقال
- ثوانى وأجيب لك الورق والقلم بس حرّص من المخبر!
قلت له
- ماتوصيش حريص
وخرج عشان يرجع لى بورقة وظرف جواب وقلم، وخرج بعدما قفل على باب الزنزانة فبدأت أكتب:
- عزيزى جلال أنا والحمد لله بخير وبصحة جيدة، وأرجوا أن تذهب إلى حوش قدم، وتطمئن على صحة الشيخ إمام، وقول له نجم بيسلم عليك وبيقول لك من يوم السبت تبدأ تنفيذ الخطة رقم 8، وطبقت الورقة وحطيتها فى الظرف وقفلت عليها، ولما جه الزميل إديته الظرف المقفول وأنا بأقول
- الجواب ده مسألة حياة أو موت.. أوعى الجواب يتمسك
قال لى بمنتهى الثقة
- عيب!
وخد الجواب وخرج
تانى يوم الصبح جانى المخبر الغبى وقال لى
- عن إذن سيادتك
لأنهم بعد التحقيق معايا ما انتهى، بدأوا يبجحوا شوية، ويسيبوا باب الزنزانة متوارب، وزنزانتى مواجهة لمدخل المعتقل، فلما كان ييجى إيراد جديد كان لازم يمر من أمام زنزانة 2 يقوم ييجى الطبلاوى ويقول
- عن إذن سيادتك لأمر هام
ويروح قافل باب الزنزانة لحد ما يمر الإيراد الجديد إلى داخل المعتقل ويفتح الباب تانى لكن المرة دى قال لى
- عن إذن سيادتك لأمر هام جدا جدا
زى ما تقول كده «أصغت السمع» وجانى صوت عبدالمنعم الطبلاوى بيقول
- خلى بالك يا مولانا، فيه حته عالية رحت زاعق بعلو صوتى بجملة كنا بنقولها فى حوش آدم دون أن نعرف لها معنى
- عبى له عبى
وسمعت الشيخ إمام بيسأل عبدالمنعم الطبلاوى
- دا صوت أبوالنجوم والله أعلم
قلت له بعلو حسى
- أيوه يا سيدى هو صوت زفت الطين والله أعلم
يوم 25 مايو سنة 1969 كان مضى على وجودى بمعتقل القلعة عشرة أيام بالتمام والكمال، وحوالى الساعة تسعة صباحا، دخل الزميل بتاع الورقة والقلم وقال لى
- انقلاب عسكرى فى السودان
وخرج لكن سابنى فى حالة قلقة لحد ما سمعت صوت جاى من بره الزنزانة بيقول
- معلشى بقى يا عبداللطيف بيه، دول طلعوا شوية عيال شيوعيين مع الأسف
شيوعيين وفى السودان! أنا قلت يا مسهل يا رب لأن الشعب الفيتنامى كان أيامها بيسطر ملحمة أسطورية فى مقاومة الاحتلال الأمريكى لجزء من أرض فيتنام، وكانت أخبار البطولات اللى بيصنعها مواطنون بسطاء فى فيتنام ضد آلة الحرب الأمريكية الغاشمة كانت الأخبار دى كأنها دعوة مفتوحة لكل الشعوب المقهورة للدخول فى النظام الشيوعى الذى تمثله جبهة تحرير فيتنام، بقيادة العم هو الزعيم الشعبى الأسطورى للشعب الفيتنامى البطل هو شمنه.. أنا قلت فى عقل بالى
- طب وماله لما يكونوا شيوعيين، المهم يخلصونا من نظام العسكر المصرى ،اللى كذب علينا وجاب لنا العار بهزيمته الساحقة فى 5 يونيو سنة 1967.. طب والله لأحييهم ورحت كاتب
أنا الأديب ولا تعرفنيش
تقرا لى لكن
ماتشوفنيش
كلامى لا هو مدهون ورنيش
ولا المعانى عليها غبار
شقع بقع يا ديل الفار
يا شعب مصر يا خم النوم
ما تفوق بقى وتشوف لك يوم
الثورة قامت فى الخرطوم
وانت اللى نايم بالمندار
شقع بقع يا ديل الفار
يا شعب ثور داهية تسمك
وشيل أصول أسباب غمك
عصابة بتمص فى دمك
والاسم قال
ضباط أحرار
شقع بق ياديل الفار
خدوا اليهود غزة وسينا
وبكره يبقوا وسطينا
والراديوهات بتغدينا
خطب
ونتعشى أشعار
شقع بقع يا ديل الفار
الشيخ إمام قال كلمة حق
الست سومه
قالت لك لأ
وأبوالنجوم على ودنه انزق
فى المعتقل والدنيا نهار
شقع بقع يا ديل الفار
وبعد ما كتبت القصيدة بدأت أسأل نفسى يا ترى يا هل ترى أديها للزميل يوصلها لهم، وكأنى ما اكتشفتش أى شىء من أصله، ولا أخبيها وأخيرا استخرت ربنا، وقررت أواصل تمثيل دور المغفل، وأول ما دخل عليا الزميل بتاع الورقة والقلم قلت له
- إلحقنى بالورق والقلم
قال لى
- خير؟
قلت له
- خير طبعا.. قصيدة جديدة
قال لى بدهشة
- انت بتكتب الشعر من غير ورق ولا قلم
ضحكت وقلت له
- ما هو دا الشعر الحديث اللى بيقولوا عليه