مازلنا بصدد قضية الجمال والقبح فى الفنِّ، كما ذهب «وولتر ت. ستيس» W.T.Stace، فى كتابه «معنى الجمال». يقول الكتابُ إن الجمالَ والقبحَ فى الفنّ، ليسا ضدّين، بل رافدان من روافد الاستاطيقا، يشكّلان معًا منظومةَ الإبداع. فالقبحُ نوعٌ من الانطباع الاستاطيقى.
وكلُّ انطباع استاطيقىّ جميلٌ فى ذاته. فإذا كان الجميلُ يؤدى إلى المتعة، والقبيحُ يؤدى إلى الاستياء، وبما أن المتعةَ والاستياءَ ضدّان، يظنُّ الناسُ أن القبحَ ضدُّ الجمال. وخطأ هذه النظرة ينبعُ من أن الشعورَ بالاستياء الذى ولّده القبحُ، ليس شعورًا استاطيقيًّا. بينما الشعورُ الاستاطيقىّ الذى أنتجه القبحُ هو، على العكس، شعورٌ «فنىّ» بالمتعة. ودليل ذلك أن بعض الأعمال الفنية، السينمائية والتشكيلية والموسيقية والأدبية، تستقى فنيّتَها من الرعب، مثلاً.
مثلما أدخل أرسطو العواصفَ الوحشيةَ ضمن عناصر الدراما. ومثلما نرى بعض جمال الطبيعة فى شراستها وقسوتها. تلك المشاهِدُ تُشعرنا بمتعةٍ، منبعها الرعبُ والاستياء، وبالتالى ندرجها مدارجَ الفنِّ، ليس برغم قبحها، بل بسبب ذلك القبح. ويضربُ لنا الفيلسوفُ إدوارد بولو مثلا فيقول: إن الشخصَ الذى يذهب لمشاهدة مسرحية «عطيل»، وبدلاً تركيزه فى العمل الفنىّ، يذهبُ بفكره لتحليل التشابه بين موقف عطيل مع ديدمونه، وموقفه الشخصىّ مع زوجته، فإنه فى الواقع لا يشاهدُ المسرحية من منظور استاطيقىّ (جمالىّ)، بل من منظور شخصىّ، وهذا خطأ جوهرى فى تعاطى الفن.
وعَودٌ لرواية «لهو الأبالسة» التى رفضها السيد النائب حمدى زهران، يتبيّن لنا أنه يحتاج إلى التمرين على تعاطى الأعمال الإبداعية من منظور مغاير لتعامله مع منظومة القيم والأخلاق. فالمشهد الذى رفضه، فى الرواية، يتلخص فى امرأة «شاذة» تضاجع حمارًا! فقال: هذا يطيحُ بسُلّم القيم فى المجتمع المصرىّ! كأنما الشواذُ يترقبون صدور الرواية ليشذّوا، أولاً! وثانيًا كأنما لا يعرفُ أن تلك السلوكات الشاذة تُمارس من قديم الأزل فى كافة أنحاء الأرض قبل الرواية، وبعدها! والأخطرُ أنه ينسى أن الفنَّ من رسائله أن يعرض القبيحَ لكى نمقته، نشدانًا للجمال. ومن هنا، فالمشهد الذى لفظه النائبُ، هو ذاته لصالح الجمال، لا ضدّه. فكأنما النائب يودّ أن يحصرَ الفنّ داخل صندوق الجمال، بمعناه الطفولىّ الساذج، من كونه: الوردةَ والقمرَ والفراشةَ والعصفور! فيما أرى أن السيد زهران تعوزّه القراءةُ سنواتٍ طوالاً ليدركَ المعنى العميقَ لقضية الجمال والقبح فى الأدب.
يقول فى بيانه العجيب: «تضمنتِ الروايةُ عباراتٍ خادشةً للحياء، وتخالفُ الشريعة الإسلامية، مما يروِّج للإباحية ونشر الرذيلة فى المجتمع المصرى»! وأسأله بدورى: ألا يتضمن القرآنُ الكريم عباراتٍ تناقش، بصراحة مطلقة، طبيعةَ العلاقة البيولوجية الحميمة بين الرجل والمرأة؟ ألا يتضمن البخارىُّ تفسيراتٍ شديدةَ الانفتاح والوضوح؟ فهل يخالف هذان الكتابان الكريمان الشريعةَ الإسلامية؟! هل يروّجان للإباحية؟! ثم أسأله: حينما رسم بيكاسو لوحة «الجورنيكا» مصوِّرًا أهوالَ الحرب الأهلية فى إسبانيا، أكان يروّج للحرب والاقتتال؟ أم العكس؟ وهل كافة أعمال أجاثا كريستى وألفريد هيتشكوك وموريس لوبلان تروّج للجريمة؟ أم العكس؟ وهل رواية «1984» التى صوّر فيها جورج أوريل بشاعة الحكم الشمولىّ، لو قُدِّر ودخل إنجلترا، أكان يروّج لوجود حاكم فاشىّ هو «الأخ الأكبر»؟! أم العكس؟ كيف لم ينتبه النائب الموقر أن رسمَ القبح فى الإبداع هو لونٌ من كشفه وفضحه لكى يتجنبه الناس، فينتصرون للجمال؟! إجابة سؤالى ببساطة: لأن السيد زهران لا يقرأ! ومن ثم لديه فقرٌ فادح فى القدرة على ولوج الأعمال الإبداعية، التى يلزمها موهبةٌ عظيمة اسمها: «فنُّ القراءة».
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة