◄◄قلت لمها صبرى: «انت ست بمليون راجل».. فردت: «وانت راجل بمليون ست»
◄◄الدكتور محمد صفوت سليمان استدعوه فى المخابرات لكتابة تقرير عن انتحار المشير عامر بعد رفض زميل دراسته فى فرنسا هذه المهمة
فى الحلقة الماضية من مذكراته «الفاجومى»، التى يروى فيها الشاعر أحمد فؤاد نجم الجزء الثالث من قصة حياته، استكمل نجم قصة اعتقاله فى 15 مايو عام 1969، متحدثا عن حواره مع ضابط أمن الدولة الرائد سمير حسنين، وكذلك تعرفه على أحد المعتقلين، الذى عرض عليه إمداده بورقة وقلم، وبهذه الوسيلة أرسل نجم رسالة إلى الشيخ إمام فى حوش آدم، وعن طريق هذا المعتقل عرف نجم خبر الانقلاب العسكرى فى السودان، والذى قام به الشيوعيون.
ويقول إنه تمنى لو قام الشيوعيون بانقلاب فى مصر حتى يتم الخلاص من حكم العسكر.
سنة 1969 كان معتقل القلعة بيشغى ناس على كل لون ياباتيستا، ناس ديابة، وناس غلابة على باب الله، وماتفهمش إيه اللى لم الشامى على المغربى، يعنى مثلا عبداللطيف بك المردنلى القطب الوفدى وعضو مجلس الشيوخ عن دائرة مركز فاقوس شرقية، منطقة نفوذ عائلة المردنلى، حيث أملاكهم اللى العين ما تجيب آخرها، والراجل ده بالذات أنا ماعرفتش معتقلينه ليه، ولا حكايته اتقالت ضمن حكايات القلعة اللى ولا ألف ليلة وليلة، لحد ما صبحوا ذات يوم لقوه متعلق من رقبته وشانق نفسه بالفوطة فنزلوه وغسلوه وبعتوه على بلدهم جثة هامدة، ولا من شاف ولا من درى، وراح عبداللطيف بك القطب الوفدى وعضو مجلس الشيوخ «شخة فى حمام» زى ما بيقول المثل الشعبى وسبحان من له الدوام.
وبعد كده تيجى فرقة المشير اللى كانت بتشكل أغلبية نوعية فى المعتقل وطبعا ضرورى حنبدأ بشمس بدران، اللى هو كان مرشح لخلافة جمال عبدالناصر على عرش مصر، اللى «تجرى من تحته الأنهار» على رأى جدنا فرعون العظيم، لأن الضربة كانت خاطفة وقاصمة فى صباح5 يونيو سنة 1967 ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، يعنى بعد خمستاشر سنة استعدادات وخطب نارية، كانت بتولع الوطن العربى من المحيط للخليج، واستعراضات عسكرية كل تلاتة وعشرين يوليو، الدبابات تحرق الشوارع، والطيارات توقع قزاز الشبابيك، والناس فى مصر المحروسة تدفع وتقدم من ولادها ومن أموالها بدون منّ ولا شكوى، لأن الهدف كان إزالة الكيان العنصرى الصهيونى، اللى اغتصب أرض فلسطين العربية بمؤامرة عالمية، حاكها ودبرها ونفذها المعسكر الاشتراكى قبل المعسكر الإمبريالى، وكان الشعب المصرى العظيم كل سنة يشوف أسلحة جديدة فى العرض العسكرى ويقول هانت وقربت ساعة القصاص والنصر على هذه العصابات التى أشبعت أطفالنا وشيوخنا ونساءنا قتلا وتمزيقا وحسبى الله ونعم الوكيل.
يقوم دا كله يطير فى ثوانى، إمال لما الرئيس سأل قائد جيوشه بعدما أغلقنا خليج العقبة: جاهز ياحكيم؟
قال له: برقبتى ياريس
يقوم دا كله يطير من نفخة واحدة!
أتارى حكيم أبو رقبة، كان ليلة الحادثة سهران فى أنشاص مع كل قيادات جيشه فى احتفال مالوش مناسبة! ولحظة ما بدأ الضرب اتصلوا بالمشير لقيوه فى الجو راكب طيارته وبالأمارة كان «مونون»!
وفى هذا الصدد وبعد مرور سنوات على الحادثة، سألنى عبده شمه، طب إزاى ياعم أحمد الهجوم الإسرائيلى بدأ فى الجو، وإزاى ماعتروش فى طيارة المشير؟!
وضحك أحمد القزعة كعادته وقال له: كرامات ياغيبوبة
- ونرجع بقى للحادثة.. واحد من الحاشية قال بانفعال: دول مش قاصدين البلد دول قاصدين الريس
فقال واحد من الحاشية برضه: يبقى لازم نهرّب الريس
ولما سُئل: تهربه فين
أجاب: نهربه فى الصعيد، ونقول إن المقاومة حتبدأ من الصعيد، طب مين حيمسك بدال الريس؟ قال لك شمس بدران اللى هو كان أيامها مدير مكتب المشير «أبورقبة»، ومن هذه اللحظة بدأ شمس بدران يتعامل مع نفسه باعتباره رئيس الجمهورية!
ودا بقى لما شحنوه على القلعة مع باقى الفرقة زى ما تقول فضل معصلج أو مزرجن ومش عايز يتعتع عن رئيس الجمهورية، فكان بيتصرف فى المعتقل على هذا الأساس، لحد ما خبط فى ظابط دكر وقال له بعلو حسه، اسمع ياشمس، انت هنا معتقل سياسى، وأنا ضابط فى المعتقل حقوقك أنا مسئول أوصلها لك بمنتهى الأمانة والاحترام، لكن تخرج على قوانين المعتقل، فيه إجراءات وعقوبات ح اطبقها عليك، بمنتهى الاحترام والأمانة برضه، واتقلبت الدنيا، وقامت ماقعدتش لأن شمس بدران ما صدقش اللى شافه وسمعه، فقال للضابط بعلو حسه برضه أنا مش، ح اتكلم معاك انت، أنا ح اتكلم مع وزيرك أبو ياقة مزيتة.
أتارى أبوياقة مزيتة ده يبقى هو السيد محمد شعراوى جمعة، نائب رئيس الوزراء وأمين التنظيم ووزير الداخلية ،وعلى إثر هذا الموقف دخلونا الزنازين زى الفيران، وقفلوا علينا البيبان! وفى هذه الحالة بيبقى المخبرين هم مصدر الأخبار عما يحدث خارج الزنازين، وأنا عن نفسى توقعت إنهم حيعلقوا شمس بدران زى الدبيحة فى شماعة الزنزانة «وأرهفت السمع» زى ما بيقولوا الشعرا، إنى أسمع أيتها صرخة شمساوية أبدا، وهنا خبطت على الباب بمنتهى الرقة وجالى المخبر فتوح.. فسألته: هو شمس بدران فين دلوقتى يافتوح؟
قال لى: زى ما هو فى قعدته على كرسيه على باب العنبر
- قلت له: طب هو قاعد إزاى يافتوح
قال لى: قاعد مجعوص زى عوايده ولا على باله أيتها حاجة
قلت له: إمال احنا دخلتونا الزنازين بيتك بيتك، وقفتلوا علينا بخصوص إيه؟
ضحك وقال لى: أنت بقى عايز تسكننى الزنزانة اللى جنبك، وسابنى ومشى، وتانى يوم عرفنا إن مكتب الضباط شهد اجتماعا ليليا، حضره شمس بدران الذى أصر على أن يعتذر له الرائد سمير حسنين علنا وأمام المعتقلين، وانتهى الموال بترحيل السيد شمس الدين بدران رئيس الجمهورية «الاعتبارى» إلى معتقل مزرعة طرة
وكان فضلة خيرك باقى شلة المشير تبدأ بـ«على شفيق» مدير مكتب المشير برضه، وزوج الفنانة الراحلة مها صبرى، التى كانت تزوره كل يوم تلات، وتشد من أزره، وتقف إلى جانبه، ولا ألف راجل - رحمة الله عليها - وذات يوم قابلته فى دورة الميه، وصبحت عليه، قال لى: صباح النور، على فكرة مها معجبة بشغلك وبتسلم عليك
قلت له: الله يسلمك ويسلمها، وياريت تسمح لى الظروف بمقابلتها فى الزيارة
قال لى: طب سيبنى أنا أرتب المسألة دى
والحقيقة إنه ما اتأخرش ،حيث جاءنى المخبر يوم التلات وقال لى: اتفضل البس.. عندك زيارة
وفى مكتب الزيارة قابلتنى مها بابتسامة ودودة، فتناولت يدها وقبلتها وأنا أقول
- الله يكرم أصلك، انتى ست بمليون راجل
فقالت وهى تضحك: وانت راجل بمليون ست
وضحكنا جميعا، وفى هذا الجو الحميم سألتها: انتى علاقتك إيه بأم كلثوم؟
قالت لى بدهشة: عادى دى أم كلثوم، وأنا مجرد مها صبرى
قلت لها: أنا باتكلم عن العلاقة الإنسانية
قالت: هى حبوبة وبتعاملنى كأنى بنتها
قلت لها: تبقى الخطة نجحت
قالت لى: خطة إيه يا نجم؟ إوعى تكون خطة شيوعية، وضحك على شفيق وقال لى: مانتاش قد مها يا نجم
قلت لها: انتى تخرجى من هنا على فيلا أم كلثوم، ترمى حمولك عليها، وربنا يعمل اللى فيه الخير
وسلمت عليها، وتركتهم فى الزيارة، ورجعت زنزانتى، وده كان يوم التلات وصباح يوم السبت انفتح باب الزنزانة، ودخل على اللواء على شفيق وخدنى بالحضن وهو بيقول: لازم أشوفك بره يا نجم، انت راجل جميل
قلت له: غمزت السنارة؟
قال لى: خارج إفراج إنهارده
قلت له: أمنتك أمانة تسلم لى على مها بشدة، وربنا يخليها لك، وتعانقنا وبكينا معا
ومن ضحايا حادثة المشير الدكتور محمد صفوت سليمان، الطبيب المصرى العبقرى الذى درس الطب الشرعى فى فرنسا، وكان الأول على دفعته وكان يمكن أن يعيش فى باريس، ويحصل على الجنسية الفرنسية، ويمارس الطب فى فرنسا، ولكن أصوله المصرية أمرته بالعودة إلى مصر المحروسة ليفتح عيادته فى حى شعبى فقير، وينجح الدكتور صفوت ويتزوج وينجب طفلا، ويعيش مع أسرته الصغيرة، الزوجة والطفل، ويمارس عمله كطبيب لفقراء المصريين وأهله، وذات مساء يقتحم مجموعة من الرجال الأشداء عيادة الدكتور صفوت، ليصطحبوه إلى مبنى المخابرات العامة فى حدائق القبة، وكانت هذه الحركة معتادة من مخابرات صلاح نصر صديق المشير وذراعه اليمنى - أو اليسرى - ماتفرقش - لأنه ماعتقش يمين من يسار - ونشر الرعب فى قلوب الرجال قبل النساء، وفى مبنى المخابرات أدخلوا الدكتور صفوت فى إحدى الزنازين، دون أن يوجه له أحد أى سؤال، وبعد مرور ساعتين جاء من يأخذه من الزنزانة ليصعد به إلى مكتب ضابط كبير فى المخابرات وسأله الضابط: انت الدكتور محمد صفوت سليمان؟
فقال: نعم أنا الدكتور محمد صفوت سليمان يا أفندم
قال له: وطبعاً تعرف «..» وذكر له اسم أحد زملائه فى الدراسة فى فرنسا.
فقال الدكتور صفوت: نعم أعرفه، دا زميل دراسة.
فقال الضابط: وتعرف دلوقتى هو فين؟
فنفى بشدة خوفاً من أن يكون هذا الزميل قد سقط فى يد المخابرات المصرية.
فقال له الضابط: لأ ماتخافش دا عقبالك أصبح كبير خبراء الطب الشرعى فى وزارة الصحة الفرنسية.
فقال له بارتياح: طب الحمد لله اللى جت على قد كده.
فأكمل الضابط حديثه قائلاً: وهو اللى رشحك انت بالذات.
فقال له: خير رشحنى لإيه إن شاء الله.
قال له: إحنا كنا طلبنا منه يعد لنا تقرير عن انتحار المشير عبدالحكيم عامر، لكنه هو اعتذر، وقال لنا بالحرف الواحد عندكم الدكتور محمد صفوت سليمان، وهو أكفأ منى ،مش عيب يا راجل تبقى قد كده وتخبى علينا.
فقال الدكتور صفوت: يا أفندم أنا فتحت عيادة للأمراض الباطنية فى شارع محمد على، ولا أمارس الطب الشرعى مطلقاً.
قال له: طب وعشان خاطرنا مش ممكن تمارس الطب الشرعى.
قال له بمنتهى الارتياح: أنا يا أفندم رهن الإشارة ورغبات سيادتك أوامر.
قال له: حتدخل تشوف الجثة وتطلع تكتب لنا التقرير.
ثم ضغط الجرس فدخل شخص عملاق، وراح ضارب رجليه فى الأرض مطلع شرار وهو بيقول: تمام يا سعادة الباشا.
قال له: خد الدكتور صفوت يعاين الجثة، وهاته هنا على طول.
وقام الدكتور صفوت مع العملاق، ودخل غرفة وصفها الدكتور صفوت بأنها نظيفة ومعقمة، تتوسطها ترابيزة طويلة عليها جثة مغطاة بملاءة بيضا، ومليئة ببقع الدم، فأراد أن يكشف الملاءة ليرى ما تحتها ففوجئ بيد حديدية تضغط على يده بقسوة، لتمنعه من كشف الجثة، فنظر نحو العملاق الذى اصطحبه من مكتب الضابط الكبير مستغيثا فقال له: كده آخرك يا دكتور.
فقرر الدكتور صفوت أن يشكو للضابط الكبير الذى كان يحادثه قبل واقعة الملاءة كبنى آدم، ولكنه فوجئ بالضابط يقول له:
- طيب عموما لما نعوزك حنبقى نبعت لك يا دكتور، لكن أوعى صريخ ابن يومين يعرف أى حاجة عن هذا الموضوع، وإلا حنضطر آسفين نحملك كل التبعات، مع السلامة يا دكتور صفوت.
ولم يصدق الدكتور محمد صفوت سليمان أن المشوار انتهى على خير.