أقول نعم الإمكانية موجودة، وإذا صدقت النوايا فستكون النتائج مبهرة، المهم أن نبنى هذا التوافق على أسس سليمة ومتينة فى الوقت نفسه، ولنتفق أولاً على أن المطلوب ليس صنع اتفاق بين الأطراف، ولكن المطلوب أن تتشابك الأيادى لتشكل قبضة واحدة قادرة على صنع التغيير، أكثر من هذا سيكون ظلماً للطرفين أو بالأحرى للأطراف كلها.
وقبل أن نستطرد فى الإجابة على السؤال يجب أن نؤكد على أننا على لسنا أمام طرفين، نحن فى الحقيقة أمام أطراف عدة، فالعلمانيون ليسوا كتلة واحدة، ولا الإسلاميون أيضاً، من العلمانيين من يرفض مجرد الحوار مع الإسلاميين ولديه فى ذلك أسباب شتى يعلن بعضها ويخفى بعضها، والإسلاميون أيضا ليسوا كتلة موحدة على موقف واحد من العلمانيين، فمنهم من يفضل النظام القائم على أن يضع يده فى يد علمانيين يراهم منكرين للدين ومحاربين للإسلام، وهذان الصنفان لسنا نعنيهم فى حديثنا عن توافق بين الإسلاميين والعلمانيين.
دعوتنا إلى التوافق لا تشمل العلمانيين المنكرين لدور الدين فى المجتمع، كما لا تشمل الإسلاميين المنكرين لأدوار الآخرين فى تقدم الوطن ورقيه، وقد فشلت العلمانية فى التجارب الشيوعية التى أقصت الدين من حياة الشعوب، ورفعت فى مواجهته شعار لا حرية لأعداء الحرية، فسقطت الشيوعية وعادت الشعوب إلى دياناتها وأعيد بناء الكنائس والمساجد التى تهدمت، وكذلك فشلت التجارب الإسلامية التى نفت وجود الآخر المختلف معها وانتهت إلى تجارب محصورة غير قادرة على النمو الطبيعى.
دعوتنا إلى هؤلاء الذين يؤمنون بأننا يجب أن نتعاون على البر والتقوى وهؤلاء الذين يؤمنون بإمكانية التوافق على برنامج حد أدنى يضمن تحقيقه للجميع الحق فى التواجد والعمل بحرية وفتح الفرص المتكافئة أمام كل القوى الوطنية للمشاركة فى خدمة الوطن.
وللذين يعتقدون باستحالة قيام توافق بين الفرقاء على الأطراف كلها نسوق إليهم مثال المؤتمر القومى الإسلامى الذى بدأت أولى دوراته سنة 1994 فى بيروت، وتوالت دورات انعقاده كما تداول على رئاسته التياران، وشهد رموزه من علمانيين وإسلاميين على إمكانية الحوار ومن ثم التوافق.
وإذا لم تكن تجارب اللقاء والتوافق بين التيارين قد شهدت تطوراً ملحوظاً فى الساحات العربية المختلفة إلا أننا نجد فى الساحات الإسلامية غير العربية مثل هذا التطور الذى خلق مناخات وإمكانيات على تغيير المجتمعات الإسلامية نحو التقدم والحكم والرشيد.
لا تزال تجارب العمل المشترك بين الإسلاميين والعلمانيين محدودة فى وطننا العربى، وهذا ما أعتبره واحدة من معضلات التغيير فى واقعنا العربى، ولكننا ما زلنا نأمل فى أن نكسر هذه الحلقة المفرغة من التنازع بين التيارين، التى لن تفضى إلا إلى بقاء الأحوال على ما هى عليه من سوء وتدهور وترد مستمر.
إن أنظمة الحكم العربية هى المستفيد الوحيد من تناقضات التيارين وهى صاحبة مصلحة مؤكدة فى تجذير الهوة بينهما وهى تلعب على الأطراف جميعا، فتساند هذا الطرف مرة فى مواجهتها مع الطرف الآخر ثم تعود لتنقلب على الجانب الآخر لتتمسح فى مقولات وشعارات الطرف الأول، وتظل تلعب اللعبة نفسها ما دامت فى مصلحتها، وللأسف أن اللعبة تنطلى على التيارين وينساقون فيها بوعى أو بدون وعى فى أحيان كثيرة.
إن أشواق التغيير فى مجتمعاتنا العربية سوف تتوقف عند حدود النخب إن هى لم تجد وسيلة فاعلة للتوافق بين العلمانيين والإسلاميين، وسوف تظل النخب العلمانية محصورة بين النظم الاستبدادية من جهة والجماهير التى لا تثق فيها ولا توليها اهتمامها من جهة أخرى، وعلى الجانب الآخر سوف تبقى التيارات الإسلامية محاصرة بين مطرقة الحكومات العلمانية وسندان عدم القبول الوطنى العام بوجودهم والتخوف من سيطرتهم على مقاليد الأمور فى ربوع الوطن العربى.
وكلمتى هنا موجهة إلى العقلاء فى التيارين، وهم فى نظرى كثيرون، أن تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، أن يقبل كل منا بالآخر كما هو بدون إنكار أو تكفير، وأن يأخذ كل منا الضمانات التى تطمئنه على بقائه وحريته فى العمل الوطنى بفرص متكافئة لجميع الأطراف، ساعتها يمكننا النظر باطمئنان إلى المستقبل.
ولكم عبرة فى تركيا يا أولى الأبصار.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة