باسم صادق

مـدارس بـلاد بـره

الأحد، 09 مايو 2010 07:31 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
صدق شاعرنا الراحل صلاح عبد الصبور حينما قال: الناس فى بلادى جارحون كالصقور.. غناؤهم كرجفة الشتاء فى ذؤابة المطر.. وضحكهم يئز كاللهيب فى الحطب.. خطاهم تريد أن تسوخ فى التراب.. ويقتلون، يسرقون، يشربون، يجشأون.. لكنهم بشر.. وطيبون حين يملكون قبضتى نقود.. ومؤمنون بالقدر.

نعم كل هذه المتناقضات تعتمل فى داخلنا نحن المصريين، فرغم أننا نبدو كالصقور الجارحة إلا أننا فى النهاية يسهل إرضاؤنا بحفنة قليلة من النقود، بل ونحيل كل ما نتعرض له من مصائب إلى القدر، حتى لو كانت تلك المصائب سببها الرئيسى إهمال ولا مبالاة وعدم شعور بالمسئولية.. هذه الأبيات يمكنك أن تطبقها بسهولة على كل ما يدور من أمور حولنا، وقِس على ذلك مثلا ما يحدث فى منظومة التعليم ومدارسنا المصرية، فنحن نصرخ رفضا للفساد والإهمال والفوضى اللامتناهية بين جدران مدارينا ونستغيث بحثا عمن يرحمنا من عذابات الانهيار التعليمى بدءا من عدم الالتزام بتقاليد اليوم الدراسى من طابور مدرسى وأداء تحية المدرسة وحرص المدرسين والنظار على التواجد فى فناء المدرسة أثناء هذا الطابور ومرورا بالإهمال فى نظافة دورات المياه وتجاهل حصص الأنشطة الفنية والضيف الثقيل دائما المسمى بالدروس الخصوصية، وانتهاءً بالهدف من التعليم وأولويات هذه الأهداف وخدمتها لسوق العمل.. رغم كل هذه المآسى التى نعيشها منذ سنوات طويلة إلا أننا فى الوقت نفسه نسخر ممن يريد بنا خيرا وإصلاحا، بل ونمطره بوابل من الهجمات العنترية باسم الدفاع عن حقوق الإنسان وظروف المدرسين وكيف أنهم ضحية المنظومة التعليمة التى فسدت مع تراكم السنين وكأننا لا نعرف ما يضرنا وما ينفعنا.

أتحدث عن السيد الدكتور أحمد زكى بدر الذى قوبل بكثير من التأنيب والعتاب على ما يصدره من عقوبات تأديبية بحق المقصرين فى العملية التعليمية، وكأن مهاجمى بدر لا يعيشون فى هذا البلد ولا يدركون ما وصل إليه حال مدارسنا، فمبدأ الثواب والعقاب الذى انتهجه بدر ضرورى لتصحيح الأوضاع، خاصة وأنه حديث العهد بالوزارة ولابد أن يدرك الجميع أنه يختلف عمن سبقوه وأنه يحمل سياسة مختلفة وأنا لا أشك مطلقا فى أنه يضع عملية تعديل المناهج وتطويرها صوب عينيه باعتبارها أهم أعمدة العملية التعليمية، فالكثيرون أخذوا عليه أنه يبحث عن المظاهر والدعاية الإعلامية ويتجاهل ما هو أهم من ذلك، ولكن لا بد أن يعى الجميع أن الرجل لا يملك عصا سحرية يطور بها المناهج والنظام الدراسى بأكمله بين ليلة وضحاها، فالأمر يحتاج إلى قدر من الوقت لن يتحمله هذا العام الدراسى بحكم اقترابه من نهايته.

سأكتفى هنا بالكشف عن صورة لمدارس "بلاد بره" ليعرف أعداء الانضباط والحسم أن مدارسنا تأخرت كثيرا مثل أشياء عدة فى بلادنا، وهذه الصورة نقلتها لى السيدة رانيا كحيل المقيمة فى إحدى المدن الهولندية، فقد روت لى كيف يتم التعامل مع طفلتها فى مرحلة رياض الأطفال هناك، ففى بداية التحاق طفلتها بالمدرسة تم إجراء مقابلة شخصية للطفلة مع مسئولى الهيئة أو الإدارة التعليمية التابعة لمنطقة سكنها، ليتم تحديد نسبة ذكاء وقدرات الطفلة واختيار المدرسة والصف المناسب لها، فليس إجباريا أن يلتحق الطالب بالصف الأول حتى وهو يدخل لأول مرة، فإذا كان مستوى قدراته يؤهله لصف أعلى فأهلا به فى هذا الصف.. بدأ العام الدراسى بكثير من الترحيب بهذه الطفلة –العربية بين جنسيات أجنبية متعددة- وكونت الطفلة صداقات أيضا متعددة بحكم شخصيتها الاجتماعية، ومع مرور الوقت اقترب عيد ميلاد البنت وفكرت الأم أن تذهب للمدرسة للاحتفال به مع زملائها- مثلما يحدث لدينا فى كثير من مدارسنا الخاصة- وحينما تحدثت مع مدرسة الفصل فوجئت أن المعلمة أعدت برنامجا كاملا للاحتفال بهذا اليوم بل وتم إعداد تاج وكرسى كبير يشبه كرسى العرش ليتم خلاله تنصيب صاحبة عيد الميلاد كملكة متوجة بين أصدقائها، بالإضافة لتحمل المدرسة لكافة نفقات هذا الاحتفال من حلويات وخلافه.. الأمر الآخر أنه ذات يوم تغيبت الطفلة عن المدرسة لمرضها- والكلام على لسان السيدة رانيا- ففوجئت الأم أيضا بجرس باب منزلهم يدق وإذا بمدرسة الطفلة تأتى للاطمئنان على حالة ابنتها والسبب فى تغيبها دون اعتذار مسبق، وجلست المدرسة جلسة عائلية جدا بصحبة الأم والطفلة، بل وأهدت تلميذتها مجموعة من الكروت التى صممها ورسمها زملاؤها حبا واشتياقا لزميلتهم التى تغيبت عنهم، وحينما علمت بأن الطفلة ستغيب فى اليوم التالى أيضا طلبت منها أن تصمم هى الأخرى عدة كروت لزملائها المقربين لكى تقوم المدرسة بنفسها بتوصيلها!

المهم فى هذه الجلسة أن المدرسة– الهولندية الجنسية- حاولت التقرب من الأسرة والتعرف على تقاليدهم العربية والدينية حتى يمكنها التعامل مع تلميذتها بالصورة الأمثل، ونقلت لهم أيضا صورة تفصيلية عن حالة ابنتهم فى المدرسة وكيف أنها شخصية قيادية وتتعامل مع زملائها بود واحترام وما شابه.
مرت الأيام واقترب العام الدراسى من نهايته، فعقدت الهيئة التعليمية مقابلة شخصية أخرى للطفلة بطلة الحكاية لتتعرف من خلالها عن شعورها تجاه مدرستها.. هل تحبها أم لا؟ ولماذا؟ ما الذى تفتقده فى المدرسة؟ كيف ترى شخصية معلمتها؟ فى نفس الوقت يتم من خلال هذه المقابلة تحديد قدرة الطفل على الانتقال إلى صف دراسى أعلى أو حتى صفين دراسيين وهل سيستوعب المناهج أم لا.

نسيت أن أقول إن ابنة السيدة رانيا ظلت طوال عامين كاملين لا تمسك قلما إلا للرسم والتلوين به.. لا تلقين.. لا تحفيظ.. لا ترهيب، والأهم أن العام الدراسى مستمر طول العام ولا يتوقف إلا لأسابيع قليلة.

إلى هذا الحد يهتم هؤلاء الناس بتنشئة الطفل.. إلى هذه الدرجة يُنظر للصغار باعتبارهم العقول الصانعة للمستقبل.. لا تجاهل لطفولتهم.. لا إهمال لآرائهم.. لا تقليل من شأنهم، لذا أقول لفريق مهاجمى د. بدر: اتركوا الرجل يعمل فى صمت، ثم حاسبوه بعد فترة من الوقت، فليس من الممكن أن يحمل على عاتقه عبء أخطاء غيره، وأنا على يقين أن رجلا بهذا القدر من الجرأة والصراحة لن يتردد فى إعلان خطئه إذا وقع فيه.. اتركوه يصحح الأوضاع.. اتركوه يغلق صنابير الفساد.. اتركوه يعيد للمدرسة هيبتها ولطابور الصباح مدرسيه وتلاميذه وعَلَمه ونشيد هذا الوطن الذى فقد الانتماء إليه.. اتركوه يعيد للتلاميذ هيئتهم المهندمة.. اتركوه يبنى من جديد العلاقة بين المدرس والتلميذ.. اتركوه يخاطب عقول أبنائنا.. اتركوه يبحث عن صاحب الكلمة الأولى والأخيرة فى مدارسنا، الكتاب.. اتركوه يقضى على الدروس الخصوصية.. اتركوه يشجع الجميع على العمل والاجتهاد.. أما هو، د. أحمد زكى بدر فأدعوه لمواصلة مسيرته لأن الأمر يستحق.. أدعوه للعمل بأقصى سرعة لأنه فاتنا الكثير.. أدعوه لتجاهل نباح الحاقدين والفاسدين.. أدعوه للتخلص من بيروقراطية الإدارة المصرية.. أدعوه لاستمرار حملة الثواب والعقاب لأن الجزاء من جنس العمل.. أدعوه إلى تأمل المنظومات التعليمية فى البلدان المتقدمة وأن يختار منها ما يناسب طلابنا لعلنا نتمكن ذات يوم من ركوب قطار التطور ولو فى محطته الأخيرة.

• كاتب صحفى بالأهرام





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة