قالت ما لم يقله محمود عباس، وصرحت بما لم يصرح به زعماء العرب المحسوبون على الاعتدال بالمقياس الأمريكى، «أخبِرْهم أن يخرجوا من فلسطين»، هكذا أجابت هيلين توماس عميدة الصحفيين فى البيت الأبيض عن سؤال بشأن إسرائيل، وأعادت التذكير بأصل القضية التى يحاول بعض العرب التهرّب منها لتنفيذ مشاريع خائبة، قالت إن إسرائيل دولة مغتصبة لأرض ليست لهم، وأضافت بكل شجاعة ووضوح: «هؤلاء الناس محتلون، وهذه ليست ألمانيا أو بولندا»، وطلبت من الإسرائيليين العودة من حيث أتوا، وحين سئلت إلى أين تكون عودتهم، قالت إلى ألمانيا وبولندا والولايات المحتدة الأمريكية، ولكنها عوقبت على الفور، عوقبت فى بلد الحرية، عوقبت على رأى صريح أبدته علناً، واعتبر المتحدث باسم البيت الأبيض روبرت غيبس أن تصريحاتها «عدائية وغير مسئولة، وتستدعى التوبيخ» وطالبها بالاعتذار، وتوالت حفلات التبرّؤ منها، ورفضها شخصياً، قبل رفض تصريحاتها، فما كان منها إلا الاعتذار ثم التقاعد لتدفع ثمن خروجها المتعمد على المحظور فى أمريكا والغرب كله، المساس بإسرائيل هناك خط أحمر، الذى من أجله حوكم مفكرون كثيرون حاولوا الخروج عن الخط المرسوم الذى تحرسه لوبيات صهيونية مستيقظة لكل كلمة تقال هنا أو هناك.
الحرية هناك مكفولة للجميع، وفى كل شىء، إلا شيئاً واحداً لا يجرؤ أحد على الكلام فيه، والذى يتجرأ فى يوم من الأيام ينال عقابه القاسى على الفور، لم تشفع لهيلين توماس سنوات عملها الطويلة كمراسلة رئاسية، وصلت خلالها إلى عميدة الصحفيين فى البيت الأبيض، تصرفوا معها كما تتصرف الأجهزة القمعية فى جمهوريات الخوف وديكتاتوريات الموت، مارسوا فى مواجهة تصريحاتها عنفا وإرهابا فكرياً جعلها تضطر إلى الاعتذار والانسحاب من المهنة التى عشقتها وعملت فيها طوال ستين عاما ويزيد.
ضمير السيدة الأولى للصحافة الأمريكية لم يتحمل السكوت طويلاً عن الحقيقة ولما قالتها أجبروها على دفع الثمن باهظاً، وأجبروها على الاستقالة من عملها، وبقى ضمير أمريكا قادراً على السكوت على جرائم إسرائيل اليومية فى حق شعب أعزل تمارس ضده أبشع صور الاحتلال التى مرت على البشرية منذ خلق الله الأرض ومن عليها حتى يومنا هذا، ضمير أمريكا فى إجازة إجبارية ما يجعلها أحط إمبراطورية فى تاريخ البشر، وينبئ عن قرب سقوطها المدوى.
هيلين التى كانت يعمل لها الرؤساء الأمريكيون ألف حساب، وعملت معهم جميعا منذ كينيدى فى بداية الستينيات حتى الأمس القريب، لم تعط أحدا منهم تأييدها إلا باراك أوباما فهو الرئيس الوحيد من بين عشرة رؤساء عرفتهم هيلين، أيدته خلال المعركة الانتخابية بسبب إعجابها بمشروعه للتأمين الصحى، ولكن دعمها الإعلامى له لم يعفه من صدمة أول سؤال فى أول مؤتمر صحفى عقده فى البيت الأبيض سألته ببراءة: حضرة الرئيس، هل تعرف دولة فى الشرق الأوسط تملك سلاحاً نووياً؟
لا فرق بين الأنظمة الشمولية التى تعلن أمريكا رفضها لها وتخوض فى مواجهتها الحروب وبين أمريكا حين يتعلق الأمر بإسرائيل ووجودها ودورها الموكول إليها، ستختفى كل الشعارات البراقة عن الحرية والديمقراطية وتنقلب حرية التعبير عن الرأى إلى خطيئة كبرى، وتشتد حملات الضغط والترهيب فى مواجهة الرأى المخالف بكل وسيلة ممكنة لمعاقبته على تلك الجرأة وإجباره على التراجع والاعتذار، ولهذا تراجعت هيلين واعتذرت وأعلنت اعتزالها العمل الصحفى لتقدم شهادة دامغة على ديمقراطية الغرب التى تسقط عند الاختبار الإسرائيلى دائما.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة