سيسجل التاريخ أن مصر كانت قد عبرت مع الرئيس السابق أنور السادات من ضفاف الدولة الساعية إلى الاستقلال إلى رمال الدولة الرخوة الفاقدة الجزء الأكبر من سيطرتها على قرارها الداخلى، تابعة للخارج، مفتوحة الحدود والاقتصاد، والمشرعة أموالها لأكبر عمليات النهب من الأفاقين وتجار المال العام واللصوص الكبار، كما أنه لا شك سوف يسجل أن الرئيس حسنى مبارك هو صاحب إنجاز العبور بمصر من حالة الدولة "الرخوة" التى أرسى دعائمها سلفه الرئيس أنور السادات إلى حالة الدولة "المفكوكة" التى لم يسبقه إليها أحد من الحكام.
سيقف التاريخ طويلاً أمام ما أضافه حكم الرئيس مبارك من إنجازات غير مسبوقة أسهمت فى ترسيخ رخاوة الدولة المصرية وأفقدتها ما كان تبقى لها من سيطرة على قرارها الداخلى، وأصبحت مسلوبة الإرادة، منزوعة المهابة، وانتشر الفساد فى أرجائها بعدما تحكمت فيها الأقليات الفاسدة والمفسدة التى استطاعت أن تضيف احتكارها للثروة ومصادر النفوذ والقوة إلى جانب احتكارها للسلطة، وجرى على نطاق واسع تجاهل حكم القانون، وتغلبت على نحو غير مسبوق مصالح مجموعة من الأفراد فوق المصالح العامة للوطن والمواطنين.
وسيرصد المؤرخون أنه فى الطريق إلى ترسيخ قواعد الدولة الرخوة استطاع نظام الرئيس وحزبه أن يخلقا نظاماً بوليسياً بامتياز، جعل أجهزة الأمن هى المرجع الأساسى فى كل شئون البلاد والعباد، وانتشرت جحافل الأمن المركزى فى كل مكان، وصارت كلمة الأمن هى المسموعة فى جميع الأوساط بما فيها الأوساط العلمية والجامعية حتى صارت جامعاتنا فى زيل القائمة على مستوى العالم، وصارت سمعتنا العلمية فى الأرض.
والأرجح أن المؤرخين سوف يكتشفون أن الضربة الجوية الأولى فى عملية تحويل مصر من مرحلة الدولة الرخوة إلى مرحلة الدولة المفكوكة قد جاءت مع ظهور بوادر الاتجاه نحو توريث الحكم، ما جعل الدولة الرخوة برأسين، انفكت حولهما أجهزة الدولة موزعة سلطاتها واختصاصاتها بين رؤوس أخرى وجدت الفرصة سانحة لكى تحفظ وجودها ضمن الدائرة الأولى عند قمة النظام.
وكما نظَّر المفكرون وأصحاب النظريات السياسية وأساتذة النظم السياسية كثيراً حول أنواع الدولة التى بدأت بالمدينة الفاضلة، ولم تنته عند الدولة الجاهلة أو الفاسقة مروراً بالدولة الليبرالية والشمولية وانتهاء بالدولة الرخوة، فإن المجال مفتوح الآن للتنظير لشكل الدولة الجديد فى ظل انفكاك الدولة الرخوة.
وقد عرفت الدولة المفكوكة تحول الموكب الرئاسى إلى موكبين حتى ظن بعض الضيوف المدعوين إلى احتفال رسمى حين شاهدوا موكباً ضخماً يسبقه الموتوسيكلات والسيارات الشيروكى أن الرئيس مبارك وصل، ولكن جاره نبهه إلى أن الموكب للرئيس الابن، وأن وصوله يعنى اقتراب موعد وصول الرئيس الأب.
وفى ظل الدولة المفكوكة تحدثت الأنباء وتواترت عن وزراء تابعين لنجل الرئيس، والدولة المفكوكة ليست برأسين فقط، بل تتوزع فيها سلطات نهب المال العام على أمراء المماليك المنتشرين على رقعة الاقتصاد والفساد ينهبون ما تطاله أيديهم، ويدفعون المكوس المقررة على كل نهيبة على حسب حجم وثقل المنهوب.
السؤال الذى يواجه المؤرخ الأمين هو: إذا ما كانت الدولة الرخوة يمكن أن تعيش عالة على الخارج وناهبة للداخل وقامعة له، فهل يمكن أن تعيش الدولة المفكوكة أكثر من اللازم لتحقيق مصالح الخارج، وفى ظل غضب داخلى عارم على كل المسئولين عن انفكاك الدولة فى مصر.
الإجابة فى عهدة قابل الأيام.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة