يغنى البنغال لوطنهم ومزارعهم أغانٍ مليئة بالحب والحماسة والفداء، رغم أن بلادهم وهى جمهورية بنجلاديش المعروفة، هى أفقر دول العالم، ومن أكثرها فساداً، وبالتالى هم أيضا أفقر الشعوب.. ولكن ماذا فعل هؤلاء القوم لتلك البلاد غير الغناء؟. لا شىء.. فقد تركوها وراحوا يضربون فى أطناب الأرض بحثا عن الكفاف، ولا شىء غيره، لأن بلادهم عجزت حتى أن توفره لهم، وهم العاملون الفلاحون.
فهل البنغال أبناء دنيا ويعشقون الحياة فآثروها؟ ورفضوا أن يموتوا فداء الوطن وإصلاحه، لكى يحيا أبناؤهم من بعدهم حياة أكرم من تلك التعيسة التى يعيشونها الآن؟. ربما، ولكنهم إحصائيا يفقدون الآلاف سنويا فى الفيضانات وهم نائمون فى بلادهم، وفى حوادث المناجم وحفر الطرق وهم يعملون خارجها.
فهل فكر البنغال أن يموتوا من أجل إصلاح بلادهم؟ وأن يبدوا استعدادهم للتضحية فداءً للوطن، بدلا من الموت فى إعمار أوطان أخرى؟. حتى الآن لا تبدو الإجابة نعم، إذ مازالت بلادهم فقيرة وحكومتهم فاسدة وأبناؤهم فقراء ورجالهم يهاجرون بالملايين، ولكنهم أيضا مازالوا يغنون للوطن تلك الأغانى الجوفاء.
بالطبع ليس فقط البنغال هم المقصودون، ولا هم فقط من يفعل ما يفعلون. ولكن مثلهم فى ذلك مثل عشرات الشعوب الأخرى، ولكن يبدو ذكرهم هو الأقرب لنا بحكم أنهم مسلمون، وأن الكثير منا عرفهم من خلال العمل فى دول الخليج العربى، الذى يمثلون الآن نسبة كبيرة من سكانه.
ولكن هل لا تغنى شعوب أوروبا ودول العالم المتقدم لأوطانها؟ نعم يغنون للأرض والطيور والحرية، ويتذكرون أجدادهم الذين ضحوا بأنفسهم لكى يصنعوا لهم عالما جميلا.. وفى الماضى غنى هؤلاء الناس أيضا لقراهم ومزارعهم وأطفالهم.. وكانوا يحلمون بعالم سعيد يمكنهم العيش فيه، لا يفرق بين الناس ويعطى لكل ذى حق حقه.. كانوا يغنون للحبيبة وشعرها الذهبى كحقول القمح، ويحلمون ببيت صغير ومزرعة، وأطفال يمرحون.. تلك الأغانى التى غناها هؤلاء لم تكن مجرد كلمات اشترتها "وزارة التوجيه والإرشاد" لكى تخدعهم بها، ولم تكن مجرد أحلام مستحيلة يحول دون تحقيقها حزب أوحد مزوِّر، ولا مستعمر، ولا نظام فاسد، تلك كانت ترنيمات الشعوب الحية، التى تشحذ بها الهمم من أجل تحقيقها، وليس من أجل الاكتفاء بها عن الفعل. فأغانى الأحرار ثورة، وأناشيدهم تغيير وإصلاح.
فى فرنسا.. غنى الفلاحون للحرية، فأشعلوا الثورة عشر سنوات، ضد الجور والاستعباد والضرائب وحكم السادة والنبلاء الفاسدين.. وفقدوا خلالها الآلاف من أبناء الشعب، لتصبح بعدها فرنسا سيدة الديموقراطية والحرية فى كوكب الأرض، وتبعتها فى ذلك بقية شعوب أوروبا، ليسودوا العالم بعد ذلك، ويغنى لهم أحمد شوقى: دم الثوار تعرفه فرنسا وتعرف أنه نور وحق.. وللحرية الحمراء باب بكـل يد مضرجة يُدق.
ومن العصر القديم إلى العصر الحديث والسنوات القريبة، كان الرومان شعبا فقيرا مقهورا بحكم مستبد فاسد، وكان الناس الذين ذاقوا كل صنوف الذل والقهر عبر سنوات وعقود طويلة، يغنون أيضا للأرض والحرية، ويتطلعون إلى الأفق البعيد خلف جبالها وتخومها وأنهارها، وينشدون غدا أفضل لأبنائهم، ولكنهم لم يكتفوا بالأمنيات والأغانى، فكانت أشهر الثورات الشعبية فى أوروبا عام 1989، التى قام بها الشعب الرومانى ضد الدكتاتور شاوشيسكو، والتى فقد فيها الشعب الرومانى عشرات الآلاف، والبعض يقول مئات الآلاف، وهم مرابطون أمام قصر الدكتاتور حتى داست فوقهم الدبابات أحياء، وأطلق حرس الدكتاتور وشرطته النار عليهم عشوائيا، إلا أن الشعب كان قد أقسم ألا يعيش إلا حرا أو يموت، وألا تذهب أغانيهم للأرض والوطن والحرية أدراج الرياح.. فكانت النتيجة هى أن الشعب عاش حرا، بينما اعتقل شاوشيسكو وزوجته وهما يحاولان الهرب، وتم إعدامهما علنا أمام شاشات التليفزيون، وعاد الشعب ليغنى من جديد أغانى الحرية والنماء.
وفى بلادنا الميمونة، يغنى الناس أيضا للهرم والنيل، ويتغنون بالتضحية والفداء لسماء الوطن وترابه.. ويتغزلون فى كل شىء فيه، ويعشقونه حتى النخاع، فهم أكثر من دللوا وطنهم بالغناء، ولكن للأسف كما يغنى البنغال وأقرانهم، وليس كما غنى أحرار العالم الحقيقيون.
فمصر فى أغانى المصريين هى المحروسة، وهى بهية، وهى أم الدنيا، وهى الحبيبة والأم، وجميع الناس مستعدون أن يموتوا من أجلها إذا تعرضت لخطر خارجى أو عدوان، ولكن ماذا يفعلون الآن وهى مستلبة داخليا، وتتآكل بفعل الفساد والإفساد، وبفعل القمع وسلب الحريات، والتسلط والاستبداد، وتزوير الإرادة، وتشويه الكرامة والتاريخ؟ لا شىء.. وهل مازالوا يغنون لها؟ نعم.. فمازالت مصر هى "تاج العلاء فى مفرق الشرق" كما وصفتها أم كلثوم على لسان حافظ إبراهيم، وهى أيضا كما قالت على لسان عبدالفتاح مصطفى: "المصانع والصوامع والزحام.. والغيطان اللى آخرها المدنة وأبراج الحمام".. فهل المصريون مازالوا على استعداد أن يموتوا دفاعاً عنها ضد أى عادٍ؟ نعم ألف مرة. ولكنهم للأسف لا يفعلون ذلك من أجل إصلاحها، ولا ينتبهون إلى أن الخطر ليس بعيدا بالضرورة، وأن العدوان لا يأتى فقط من خلف الحدود.
فالنيل معشوق المصريين وهم أكثر من غنوا له بين كل الشعوب التى يسقيها، ولكن فى أزمة اتفاقية حوض النيل التى وقعتها دوله مستغلين تهاون الوضع الحالى وهوانه، لم نر فلاحا ممن غنوا للنيل يرفع فأسه مهددا بقطع رأس من يعبث فى مياهه، بل لم نر أى موقف ولو حتى أيضا بالغناء.
وفى كل الأحداث التى تصفع مصر فيها أو تخان، وما أكثرها فى هذا الزمن الردىء، لا نر موقفاً شعبياً بمستوى الحدث، فهل نسى الناس أن تلك البلاد هى التى يغنون لها أبهى الأغانى: "يا دعاء المؤمنين.. فجر بينور سنين.. يا أحن من الحنين..".. "حلوة بلادى السمرا بلادى الحرة بلادى الصبرا بلادى".
فهكذا تذهب أغانى المصريين أدراج الرياح، وتصبح بلا قيمة أو معنى، لأنها مجرد غناء، وكلام لا يعبر عن مشاعر صادقة، ولا يدل على استعداد أو قدرة على تحويل هذا الكلام إلى فعل إذا جد الجد.. فنحن فى تلك السنوات السود من تاريخ مصر، أحوج ما نكون إلى تحويل كل التراث الغنائى إلى واقع، فكما قالت أغنية كامل الشناوى "إن ذا يوما لمن يفتدى مصرَ"، فلابد أن نستدعى كل الأغنيات المحبة والمتحفزة والحماسية والمعادية والمتغزلة فى هذا الوطن.. من رقة نجاة وهى تقول "عطشان يا اسمرانى محبة"، إلى أغنية "الكعكة الحجرية" لأمل دنقل:
أيها الواقفون على حافة المذبحة
أشهروا الأسلحة
• صحفى مصرى يعمل بجريدة المدينة السعودية
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة