كتبت هنا مؤخرا عن قضية التعليم فى مصر.. وكيف أنه لا يزال يدار بنفس قواعد محمد على وأولاده الذين كانوا يخافون أن يلقى المصريون تعليما حقيقيا فيبدأون فى التفكير والثورة على حكامهم، رفضا لأى ظلم أو ظالم.. وأن مصر أبدا لن تملك أى مستقبل أفضل من واقعها إلا لو تغيرت تماما رؤية مسؤوليها للتعليم..
وفوجئت يومها ببعض القراء الأعزاء الذين يستقون معلوماتهم عن تاريخ مصر ومستقبلها من مسلسلات التليفزيون يشنون هجوما غاضبا دفاعا عن محمد على وأسرته حتى الملك فاروق.. وعن التعليم فى عهد محمد على وأسرته..
واتهمنى هؤلاء بالجهل الشديد لما كتبته رغم أننى لم أكن صاحب تلك الرؤية أو مبتدعها، وإنما كنت ناقلا لحقائق تاريخية مثبتة ومؤكدة، ولما قاله أساتذة كبار أو مسؤولون قدامى فى مذكراتهم أثق تماما فى أن هؤلاء الغاضبين المستنيرين أبدا لم يسمعوا حتى بأسمائهم.. فصلاح عبدالصبور أشار فى كتابه «قصة الضمير المصرى» إلى رسالة لمحمد على قال فيها إنه لا يريد تعليما إلا لتخريج موظفين فقط، لأن أوروبا أخطأت حين تورطت فى تعليم كل الناس..
وأكد الدكتور حسن فوزى النجار فى كتابه عن على مبارك أن رفاعة الطهطاوى، صاحب أول مشروع للتعليم فى مصر، كان يريده فقط لتربية الأهلية.. وأكد الباحث التاريخى الكبير جاك جونيور أن الخديو سعيد تساءل يوما: ولماذا أعلم كل الناس إن حكمهم بذلك يصبح أصعب.. وهو الأمر الذى لم يجرؤ الخديو إسماعيل على تغييره فزادت المدارس فى عهده بشكل هائل، لكن بقيت الرؤية ثابتة وهى تعليم الأدب وحسن السلوك.. والسير دانلوب تعهد للورد كرومر بالإبقاء على هذا القدر الضحل من المعرفة دون أى تغيير، لأنه ليس من مصلحة الإنجليز أن ينال المصريون أى تعليم حقيقى..
وألف دراسة ووثيقة أخرى تفضح الغاية الرسمية الثابتة دوما من تعليم المصريين.. والمأساة ليست أبدا فيمن لا يعرف وبالتالى يملك جرأة الجهل وحماقته.. ولكنها فى المسؤولين الكبار الذين لا ينوون أبدا تغيير سياسة ومنهج وغاية التعليم فى مصر.. لا اليوم ولا فى المستقبل.. ويكفى للاستشهاد على ذلك النظر إلى مشروع تطوير التعليم الثانوى الذى بدأته الحكومة وخصصت له مليارين ونصف المليار جنيه.. فإذا بهذا المشروع وميزانيته الضخمة يصبح مجرد محاولة لإلغاء مكتب التنسيق وربط الثانوية العامة بسوق العمل..
محمد على أراد تعليما يتيح له العثور على موظفين بعدد كاف.. وحكومة الدكتور أحمد نظيف تريد ثانوية عامة صالحة للتوظيف..
وعلى الرغم من احترامى لكل هذا الجدل المثار حاليا حول هذا المشروع ومطالبة الكثيرين بتغيير وتعديل معظم بنوده لأنها غير واقعية أو أنها تسمح بمزيد من انفجار الدروس الخصوصية والطلاق النهائى بين الطالب والمدرسة، وستفتح أبواب الشياطين للتلاعب بالحقوق والمساواة وتكافؤ فرص الالتحاق بالجامعات.. فإن ما يعنينى قبل ذلك كله هو ما الذى سيتعلمه المصريون بالفعل..
وما الغاية من هذا التعليم.. وهو السؤال الذى أبدا لم يشغل حكومتنا الحالية ولا أى حكومة سابقة منذ نوبار باشا وحتى الدكتور أحمد نظيف.. ولا نزال ننظر للتعليم فى مصر وأزماته الخانقة باعتباره أمرا موازيا لاختناقات وزحام طريق أو ميدان فتنعقد اجتماعات لا أول لها ولا آخر تسفر فى النهاية عن قرار شق نفق أو بناء كوبرى.. كذلك التعليم.. نتعامل معه بنفس المنطق..
حين يتحول هذا التعليم إلى كارثة حقيقية وضياع لأى فرصة لامتلاك مستقبل أفضل لمصر على غرار تجارب آسيا أو شرق أوروبا.. تجتمع الحكومة فتقرر خمس سنوات للثانوية العامة بدلا من سنة واحدة أو حتى ثلاث.. هذا كل شىء..
دون أدنى التفات لما سيتعلمه المصريون الصغار.. ودون انزعاج لحقيقة مؤكدة تشير إلى أنه من بين كل ستة تلاميذ فى الصف الأول الابتدائى، واحد فقط هو الذى يصل إلى الجامعة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة