اخرج خارج الصورة، ابتعد قليلاً عن العادى الذى تعودت عليه، فأصبح كأنه هو الطبيعى، حاول أن تنظر إلى شاشات التلفزيون العربية، وقد ملأت فضاء الكرة الأرضية صخباً وجلبة ونقاراً تحت اسم الحوار، واسأل نفسك: هل نحن فى حالة حوار أم نحن فى حالة نقار، هل نحن فعلا نعرف قيمة الحوار ونقدره ونجيده، ثم أغمض عينيك قليلا وتذكر معى أشهر برامج الحوار التى سرت سريان النار فى هشيم الفضائيات، واسأل نفسك مجددا: هل هذه حوارات فعلا، وهل ما يدور بين الضيوف هو حوار حقيقى، وهل يعرف العرب الفرق بين الحوار والنقار؟
اذهب إلى المعاجم العربية تجد أن ما بين الحوار والنقار ليس مجرد سجع لفظى بل هو تضاد فى المعنى أيضاً، فالحوار رغبة فى التواصل والتفاهم، والنقار منازعة ومخاصمة فى الكلام، ومنه مناقرة الديوك، تستخدم أفواهها فى تجريح بعضها البعض، وهكذا نفعل، إذا دخل أى منا فيما نسميه زوراً بالحوار مع الآخر فلا يتركه إلا مثخناً بجروحه، جروح عقلية وقلبية وجروح فى السمعة وفى القيمة، جروح ربما لا تندمل لسيولة أصابت القيم العربية فى مقتل.
نقول ونعيد ونزيد: الحوار يا سادة تبادل للأفكار، أما النقار فتبادل للاتهامات، الحوار: تبادل الآراء، والنقار: تبادل البذاءات، الحوار يفترض إمكانية الاتفاق والاختلاف، والنقار يفترض أن لا إمكانية لغير الخلاف، الحوار يشمل النقد، والنقار لا يشمل غير التجريح، الحوار تواصل، والنقار تناحر، الحوار رغبة فى تفهم الآخر، والنقار رغبة فى الانتصار على الآخر، الحوار تلاقح للأفكار، والنقار تناطح بالأفكار، الحوار يعنى أول ما يعنى وجود طرفين مختلفين يريدان الوصول إلى مشتركات بينهما، والنقار يعنى أول ما يعنى وجود طرفين يريد كل منهما إلغاء وجود الآخر، الحوار يقوم على ترك الفرصة لكل طرف من أطرافه للتعبير والتحليل وطرح أفكاره والمعلومات والحجج والبراهين التى بحوزته، والنقار شجار يمنع أى إمكانية للتعبير الرائق عن الأفكار، ولا يسمح بتبادل الحجج قدر ما يسمح بتبادل الشتائم والاتهامات وتأليب النعرات، وتشويه المخالف، الحوار يهدف إلى الإقناع، والنقار يهدف إلى الاقتلاع، الحوار تعارف، والنقار تخالف، الحوار توافق، والنقار تشاحن، الحوار تبادل للتأثير، والنقار محاولة لفرض التأثير.
افرد أمامك خريطة العرب وتأمل ما يجرى بمقياس الحوار والنقار، لن تجد حواراً نافعاً، وستجد نقاراً ناشباً بين كل الأطراف المتناقرة، نقار فى كل مكان، هو شعارنا الذى نرفعه عالياً فوق أى شعار، النقار هو الحل، ويسقط، يسقط الحوار، فى لبنان نقار لا حوار، نقار حول المحكمة ذات الطابع الدولى لمحاكمة قتلة رفيق الحريرى، نقار يغطى حقيقة موقف كل الأطراف من قضايا أخرى تستغل المحكمة ودم الشهيد فى الانتصار على الآخرين، وفى السعودية نقار بين أنصار الإصلاح وأنصار ليس فى الإمكان أبدع مما هو كائن، فى مصر نقار المعارضة مع الحكومة معروف ومشهور، ولكن نقار المعارضة مع المعارضة يتخذ أحياناً أشكالاً أكثر قسوة منه مع الحكومة، وفى المغرب النقار على أشده بخصوص قضية الصحراء المغربية، نقار فى داخل البلاد ونقار بين المغرب والجزائر بسببه لم تقم قائمة للاتحاد المغربى، وفى تونس وفى كل مكان من أرض العرب تجد الأوضاع تسوء، ولدينا جميع أنواع النقار حتى النقار بالسلاح بين أخوة البلد الواحد والقضية الواحدة، والنقار دوار.
أسأل نفسى وأسألكم: متى نعرف أن الحوار وسيلة القادرين، وأن النقار وسيلة العاجزين، متى نفيق على أن الحوار ضرورة لصنع مستقبل أفضل، وأن النقار وسيلة لبقاء الحال كما هو عليه بدون قدرة على تغييره.
دعونا لا نذهب بعيداً وانظروا إلى الصحف والصحفيين، وانظروا إلى التعليقات والمعلقين على ما يكتب فى الصحف والمواقع ترى الكثيرين وقد جلبوا معهم حال العرب الحوارية إلى فضاء صاحبة الجلالة، وإلى فضاء الإنترنت وهات يا نقار.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة