فى أولى مدوناته بعد تولى مهام منصبه نائباً لرئيس البعثة الدبلوماسية البريطانية بالقاهرة، يرى السيد توم رايلى، بعين صحفية دبلوماسية، إحدى خصائص القاهرة التى تميزها بوضوح عن أى مدينة أخرى فى العالم.. هذه الطاقة التى تنتشر فى هوائها.. طاقة «التصميم على الإصلاح والتصليح» يحكى السيد رايلى عن تجربته عندما استقل «تاكسى قديم».
قد لا يستوقفنا كثيراً حال السيارة الأجرة التى نستقلها، «أهى توصيلة والسلام»، ولكن الكاتب الدبلوماسى قادم من مدينة تشتهر بالتاكسى الأسود التقليدى الذى يبقى لامعاً براقاً نظيفاً جديداً مَهما طال به العمر، فمن الطبيعى جداً أن يلحظ مرآة السائق الغائبة, والمقعد المُنهك والحزام الذى شدّه السائق «كده وكده» لتمويه أى شرطى مرور. تعطل به التاكسى على الطريق وبدا العطل خطيراً ولكن السائق أصر على تصليحه.
ويقول السيد رايلى فى إعجاب: «حلف السائق أنه قد انتهى تقريباً. لم أفهم كيف يمكن أن يكون انتهى من إصلاح السيارة التى بدت أنها هى التى انتهت. عاد السائق إلى مقعده ودارت السيارة. لقد أصلحها فعلاً».. فى حديثك مع هذا الدبلوماسى البريطانى الذى يُجيد اللغة العربية تلحظ بوضوح عشقه لمصر حضارةً وشعباً وربما يبرر هذا العشق بالإضافة إلى ثقافته الغربية, إعجابَه بما يتمتع به الشعب المصرى من فضيلة التصميم على الإصلاح وإعادة التدوير recycling وهى العملية التى ينظر لها الغرب بأهمية بالغة للحفاظ على البيئة والحياة؛ يقول: «تَجد هذا الأسلوب الرائع فى كل أرجاء القاهرة، لايوجد شىء مكسور لايمكن تصليحه، ولايوجد هالك يتطلب قِدَمه الإلقاء به والاستغناء عنه.. علينا فى الغرب التعلم من هذا الأسلوب». وبمنظور إدارى يختم قائلاً:«فى بعض الأحيان تصبح الأشياء عاطلة, ويمكن تصليحها، وفى أحيان أخرى تنكسر وتحتاج ببساطة إلى تغييرها» إذا طبقنا الجملة الأخيرة بضمير ستسوى كل مؤسساتنا بالأرض.
أسحب «كل» وأقول 90 % حتى أكون أقل سوداوية, وحتى أتيح لغيرى حرية ملء مساحة الـ10 %، إن الشىء عندما يزيد على حده ينقلب ضده، والفضيلة التى أبهرت السيد رايلى فى ثقافتنا من تعلقنا بكل قديم وعدم تغييره, أخشى أن تكون تضخمت فى الشخصية المصرية حتى بدأت تنخر فى عظامها, فانقلبت طاقتها التى تنتشر فى هواء مصر من طاقة إيجابية إلى سلبية. إن التغيير أو الإحلال والتجديد باهظ التكلفة مادياً ومعنوياً, وقد رسخت حكوماتنا المتتالية فينا الرضا بالأمر الواقع, بإلهائنا بالمآسى اليومية، فسائق التاكسى، كغيره، دُفن وقتُه وذهنه وماله فى لقمة عيش دون غموس ومباراة كرة ومسلسل بلا معنى.
التغيير فى مصر(الذى لا يذكر حالياً إلا مقروناً باسم الدكتور محمد البرادعى، يساعد على ذلك قلة وضعف البدائل الأخرى), يعنى خوض معارك مُهلكة تبدأ برغبة، فقرار، ثم اختيار سليم للبديل، فتصميم قوى على التنفيذ. حتى الآن لم تتوفر إلا الرغبة وهى مشروعة وضرورية. أما القرار والاختيار والتصميم, فمازال حولها علامات استفهام معلقة. لم يتبق سوى أقل من شهرين يقرر خلالهما د. البرادعى, إما الانضمام للهيئة العليا لأحد الأحزاب والترشح للرئاسة, أو عدم الترشح ومواصلة مطالبته بتغيير الدستور، وستكون معركة التغيير فى غاية الصعوبة سواء مع هذا القرار أو ذاك. مازال على صاحب جائزة نوبل، أمل التغيير الوحيد بالنسبة للكثيرين، طريق طويل وصعب. يا د. البرادعى وضح تفاصيل رؤيتك للتغيير، اتخذ قرار الترشيح, أو أعلن عن آلياتك للوصول إلى تغيير الدستور دون ترشيح، صمم وأقنعنا بأنك قادر على المواجهة، بيّن لنا خططك، رد على مهاجميك وانتزع التأييد، اسحق داخلنا فضيلة «الإصلاح وعدم التغيير».. وأقول مسبقاً لمن يرى فى كلامى أى إحباط لـ د. البرادعى، إننى أرفع له القبعة ولن أنظر له على أنه «تغيير والسلام».
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة