تلقى اليوم السابع مقالاً توضيحياً من القمص عبد المسيح بسيط حول ما أثاره رجل الدين المسيحى جونار صمويلسون، الباحث فى جامعة جوتنبيرج، والذى يناقش الاعتقاد السائد لدى المسيحيين بأن السَّيد المسيح مات مصلوبًا، واليوم السابع ينشر نص المقال..
نشرت جريدة اليوم السابع فى عددها الصادر يوم 28 /6/ 2010م مقالاً بعنوان: "رجل دين مسيحى يؤكد عدم صلب السيد المسيح"، وذلك نقلاً عن صحيفة "ديلى تليجراف" البريطانية، وهذا العنوان لا يعبر عن حقيقة الموضوع ولا ما قصده الكاتب على الإطلاق، فالمقال يتكلم عن أحد الدارسين من رجال الدين (Gunnar Samuelsson) الذى حصل على رسالة دكتوراه، من أسابيع قليلة، بعنوان "Crucifixion in Antiquity: An Inquiry into the Background of the New Testament Terminology of Crucifixion = الصلب فى العصور القديمة، تحقيق عن خلفية المصطلح الفنى للصلب فى العهد الجديد"، من الجامعة الفنلندية وقام فيها بعمل دراسة لغوية (philological) موسعة حول مصطلحات "الصليب" فى اليونانية (ستافروس - stauros) واللاتينية والعبرية. ليس لإنكار الصلب بل لتأكيد حقيقة الصلب. فهو فى هذه الدراسة يبحث فى السمات اللغوية، الفيلوجية (philological) لكيفية تصوير الإغريق واللاتينيين والعبرانيين القدماء بما فى ذلك العهد الجديد للنصوص التى تتكلم عن عقوبة الإعدام بالصليب. ويرى أن ما حدث مع المسيح فى الجلجثة من تعليق وتسمير على الخشبة يحتاج لدقة لغوية أكثر، ويتساءل ما هو التعبير اللغوى الذى كان يستخدم قبل المسيحية؟ ثم يقول كان هناك عدة مفردات للتعبير عن ذلك وعندما نأتى إلى التعبير المفرد نجده "σταυρός = stauros = cross = (†)"، أنه وسيلة تعليق الجثث ويستخدم فى التعذيب وتنفيذ حكم الإعدام ويرى أن التسمية الأدق هى (crux) وتعنى الصلب باللاتينية.
إن كل مشكلة هذا الرجل أنه تعامل مع كم كبير من مفردات اللغات اليونانى واللاتينية والآرامية، والتى كعادة اللغات القديمة بسبب قلة مفرداتها، كان للكلمة فيها معانى كثيرة تعرف من خلال سياق الكلام والقرينة لذلك دخل فى بحثه فى متاهات لغوية، أنه لم ينكر موت المسيح معلقا على خشبة ولكنه تاه فى متاهة التسمية ذاتها هل هى الصليب أم كان لها اسم آخر، والغريب أنه تجاهل تماما ما جاء فى كتب الأدب اليونانى، فمثلا يقول الشاعر اليونانى هوميروس حوالى سنة 800 ق م "(Homeros, Odysseia, XIV.)" فقد دفع صليب (stauros) طوال الطريق بطوله وعرضه ونصب عليه بإحكام". ويصف المؤرخ اليهودى يوسيفوس (Jewish War 7.203) عملية الصلب حوالى 70م بأحقر ميتة!! ويقول الفيلسوف الرومانى سينكا (Seneca's Epistle 101 to Lucilius) إن الانتحار أفضل بكثير من الوضع على الصليب، كما علق الرومان على الصلبان 6000 من أتباع سبارتاكوس الذى قام بثورة العبيد سنة 71 قبل ميلاد المسيح (Bella Civilia 1.120.)، ويقول المؤرخ الرومانى فى القرن الأول الميلادى "كان كل مجرم مدان يحمل صليبه على ظهره".
كما صلب الكثير من اليهود أيام الإمبراطور الرومانى كاليجولا (37-41م)، وتقول المشنا فى (Sanhedrin 6.5 in which Simeon B. Shetah) إنه تم تعليق من 70 إلى 80 مشعوذاً على الصليب فى أشقلون. وفى سنة 1968م اكتشف بعض المقاولين الذين كانوا يعملون فى ضاحية بشمال أورشليم القدس بالمصادفة مقبرة ترجع للقرن الأول الميلادى فى إحدى العضامات لرجل يهودى فى العشرينيات من عمره وتحمل نقشا عبريا يقول "يهوحنان ابن HGQWL " وقد مات مصلوباً، حيث وجدت إحدى قدميه مسمرة بمسمار طوله 11,5 سم، ويبدو أنه عندما أنزل من على الصليب تركوا المسمار فى قدمه.
هذه الأدلة التاريخية والأثرية تؤكد لنا أن تسمية صلب والصليب والمصلوب كانت منتشرة جداً أيام المسيح وفى القرن الأول الميلادى وحتى القرن الرابع، حين ألغى الملك قسطنطين هذه العقوبة لقسوتها، ولأن المسيح عوقب به. كما نشرت جريدة التليجراف فى عددها الصادر فى 2 مارس 2010م عن اكتشاف مسمار يرجع لبداية القرن الثانى، ويؤكد العلماء أنه من المسامير التى كانت تستخدم فى عملية الصلب.
والغريب أن صامويلسون تجاهل ذلك والكثير من الاستخدامات للكلمة بمعنى الصليب، والتى استخدمت بكثافة فى الأدب اليونانى، بل وتجاهل كل ما قالته دوائر المعارف والمعاجم والقواميس المتخصصة فى اللغة اليونانية، سواء الأدبية أو المسيحية عبر العصور. والأغرب أنه يقول إن العقيدة مأخوذة من التقليد القديم ومن الرسامين!! وهنا نسأله؛ من أين أتى التقليد والرسامون بتعبيرات الصلب والصليب، وكيف أكدت جميع كتب الآباء على تعبير الصلب وكيف رسمه جميع الرسامين عبر كل العصور بهذه الصورة المألوفة للصلب والصليب؟ وإذا كان المعنى اللغوى للكلمات لا يسعفه بسبب كثرة معانى الكلمة، فكان يجب عليه أن يفهم ذلك من تعبيرات الإنجيل نفسه الذى حدد طريقة تعليقه على الخشبة، أى الصلب، لا بالقول إنه صلب أو علق على الصليب فقط، بل شرح الطريقة التى تم بها ذلك، فيقول بعد أن حكم عليه بيلاطس بالصلب "ومضوا به للصلب (staurwsai) وفيما هم خارجون وجدوا إنسانا قيروانيا اسمه سمعان فسخروه ليحمل صليبه (stauron)، ولما صلبوه (Staurwsantes) اقتسموا ثيابه" (مت27 :31و32و35)، وهذه الكلمات جميعاً تعنى الصليب أو الخشبة التى سيسمر عليها والتسمير على خشبه.
والخشبة هنا تعنى، خشبتان متقاطعتان واحدة أفقية وأخرى رأسية (†) أنظر هذه الصورة التى ترجع لما قبل الميلاد بعدة قرون. وعندما ظهر المسيح لتلاميذه بشكل فجائى وهم يجلسون فى عليه مغلقة الأبواب خافوا جدا وظنوه روحاً فقال لهم ليؤكد لهم أنه هو: "انظروا يدى ورجلى إنى أنا هو، جسونى وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لى. وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه" (لو24 :39و40). وهنا أراهم أثر المسامير التى سمر بها فى يديه ورجليه كما يتضح من الآيات التالية: "ولما كانت عشية ذلك اليوم وهو أول الأسبوع وكانت الأبواب مغلقة حيث كان التلاميذ مجتمعين لسبب الخوف من اليهود جاء يسوع ووقف فى الوسط وقال لهم سلام لكم. ولما قال هذا أراهم يديه وجنبه" (يو20 :19و20)، أى أراهم أثر المسامير فى يديه وأثر طعنة الحربة فى جنبه. وعندما ظهر المسيح للتلاميذ ولم يكن معهم توما أحد التلاميذ الاثنى عشر: "فقال له التلاميذ الآخرون قد رأينا الرب، فقال لهم إن لم أبصر فى يديه أثر المسامير واضع أصبعى فى أثر المسامير واضع يدى فى جنبه لا أؤمن وبعد ثمانية أيام كان تلاميذه أيضا داخلا وتوما معهم. فجاء يسوع والأبواب مغلقة ووقف فى الوسط وقال سلام لكم. ثم قال لتوما هات أصبعك إلى هنا وأبصر يدى وهات يدك وضعها فى جنبى ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنا" (يو20 :25-27).
ومما يؤكد ممارسة عملية الصلب بالتسمير على الصليب كما هو مألوف ومعروف لنا أيضاً الأثر اليونانى الذى يرجع للقرن الثانى ق م فى الصورة أمامنا.
وبالطبع لقد قرأ صامويلسون هذه الآيات وهو يؤمن بما جاء فيها ولكن مشكلته أنه يبحث فى التسمية!ّ! أنه يبحث فى المعانى المختلفة والتسميات المختلفة التى تسمت بها عقوبة الصلب، ولكن كاتب المقال الذى نشر فى جريدة اليوم السابع تسرع وفهم خطأ وتصور أن هذا الباحث ينفى حقيقة الصلب كما ينفى موت المسيح. فقد كان صامويلسون يناقش فى رسالته مدى كون الصلب هو الطريقة الوحيدة للعقاب عن طريق تعليق الفرد المراد عقابه. كما يناقش التسمية لكن لا ينفى لا الصليب ولا تسمير المسيح فى يديه ورجليه ولا تعليقه على خشبتين متقاطعتين (†)، وقد توصل إلى أن ترجمة المصطلحات اليونانية الخاصة بالصلب إلى "الصلب" و"الصليب" هى ترجمات قد تكون غير دقيقة أو خاطئة، من وجهة نظره الخاصة، التى لم يبحثها العلماء بعد، فنحن ننتظر تعليق العلماء على ذلك على الرغم من أنه قد وصلتنا بعض التعليقات السريعة التى ليست فى صالح صامويلسون، وكلها ترفض ما توصل إليه، خاصة أنه جاء بعكس كل ما توصل إليه العلماء من قبله جميع دوائر المعارف والمعاجم والقواميس التاريخية والأدبية والعلمية والدينية، فهو يرى أن طرق العقاب عن طريق تعليق الشخص كانت متنوعة ولا يوجد دليل لغوى، بحسب زعمه، يجبرنا على ترجمة الصياغات اليونانية إلى عقوبة الصلب على وجه التحديد، بل يجب ترجمتها إلى المعنى العام وهو التعليق والتسمير فى اليدين والرجلين.
إنه لا ينفى حقيقة صلب المسيح بل يركز فقط على التسمية، أى يريد أن نقول إنه سمر وعلق على خشبة. فحقيقة موت المسيح على الصليب فى اعتقاد هذا الباحث لا شك فيها على الإطلاق، كما أن تعبير التعليق على خشبه تعبير مألوف فى الكتاب المقدس "المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب ملعون كل من علّق على خشبة" (غلاطية3 :13)، ويقصد به المعلق على خشبة بالطريقة اليهودية أو التسمير على خشبة بالطريقة الرومانية (†). لقد مات المسيح وهو ما لم ينكره صامويلسون الراعى الإنجيلى المسيحى معلقا على خشبة ومسمرا فى يديه ورجليه ومطعونا بالحربة فى جنبه. ويجب أن نعرف أن هذه الرسالة لم تقدم إلا من عدة أسابيع فقط، ولم يتم دراسة موضوعها دراسة علمية من قِبل العلماء والمتخصصين فى اللغة اليونانية والعالم القديم وعلماء الآثار وغيرهم من المتخصصين فى هذا المجال. وسنقدم فيما بعد دراسة تفصيلية حول هذا الموضع من وجهة نظر العلماء.
موضوعات متعلقة:
رجل دين مسيحى يؤكد عدم صلب السيد المسيح
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة