◄◄ أنا ضد الدولة الدينية.. والسعودية والإخوان المسلمون يسيئان للإسلام.. وربط المصحف بالسيف يوحى بأن الدين انتشر بالعنف
◄◄انتخاب مكرم محمد أحمد نقيباً للصحفيين أثبت أن التزوير قد يكون من خارج الصندوق
◄◄تعيين أحمد الطيب شيخا للأزهر أفضل قرارات الفترة الأخيرة ويجب علينا تدعيمه
إن قرأت «مذكرات شاب عاش منذ ألف عام» أو «الزينى بركات» أو «المتون»، أو غير ذلك من أعمال الكاتب الكبير جمال الغيطانى، فستدرك أنك أمام شخصية إبداعية فريدة، يمتزج فى روايته التاريخ بالحاضر، وتظهر لغته المنتقاة بعناية كما كانت من الأرابيسك، التكرار فيها بحساب، والتشكيل فيها بحساب، والجمل فيها كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، لا يقدر أحد أن يشكك فى حبه لمصر، ومن السهل أن تتخيل الغيطانى وكأنه فعلاً «عاش منذ ألف عام» ورأى ووعى وتأمل وفكر، التراث عند الغيطانى كان حيا من لحم ودم، تشعر كما لو كان يمت إليه بصلة قرابة من الدرجة الأولى، ويبدو وجهه العربى كما لو كان منحوتا فى صخر الأهرامات، أو على جدارية معبد قديم.
«اليوم السابع» التقت الغيطانى قبل أن يرحل عن رئاسة تحرير جريدة أخبار الأدب، بعد اتمامه الخامسة والستين، تاركا خلفه تجربة صحفية وثقافية فريدة استطاع من خلالها أنه يكون نافذة مصر الثقافية على العالم العربى، وأن يحافظ على ما تيسر من مكانة مصر الثقافية خارجياً وداخلياً، سألنى فى البداية بتلقائية وابتسامة عن طبيعة الحوار «ثقافة ولا سياسة؟» فقلت له وهل هناك فواصل بين الاثنين؟ فقال بالطبع لا، وكان هذا الحوار المتشعب الذى أبحر فيه الغيطانى ابتداء من منابع النيل، مروراً بأحوال مصر الاجتماعية والسياسية، ومشكلة ألف ليلة وليلة الأخيرة، وعلاقته بوزير الثقافة، ومؤسسة أخبار اليوم التى قال إنه ينتظر قرار خروجه منها «بفارغ صبر».
◄◄ أعرف أنك تكن معزة خاصة لكتاب ألف ليلة وليلة.. فمن المقصود تحديداً باشتعال هذه المعركة؟
- المقصود إرهاب المثقفين وإحراج الدولة، فأصحاب مهمة ترويج التدين الظاهرى، أرادوا أن يقولوا «أمسك الدولة متلبسة بالمدنية» وهذا يتم وفق أجندة سياسية مرتبة ومعدة ومدعومة من الخارج، لدرجة أن هناك شخصيات أصبحت متخصصة فى رفع القضايا على المثقفين، وتذكرنى هذه الشخصية براسبوتين ذلك الدجال المشعوذ الذى يتمسح فى ثوب رجال الدين ويدعى أنه ملهم وصاحب معجزات، بينما هو ساحر وخليع ورقيع.
◄◄ قلت إن السعى وراء التدين الظاهرى يتم وفق أجندة سياسية مدعومة من الخارج.. كيف؟
- ليس لدى شك فى أن ما يحدث هو من تأثير الوهابية على بعض المصريين، وبالرغم من أن السعودية تحاول الآن أن تظهر بصورة الدولة المتطورة، فإنها بالفعل نجحت فى أن تسرب إلينا هذا الكم من التشدد الوهابى، وأنا مشغول منذ فترة برصد هذا التغير فى المجتمع المصرى الذى بدأ يعلى من قيمة التظاهر بالدين على الدين نفسه، والانشغال بالتفاصيل عن الكليات، وأعتقد أن الدين لا يحتاج إلى هذه المظاهر السهلة البسيطة، وأنا ضد الدولة الدينية بكل أشكالها، ولن ينصلح حالنا ولن يحدث تقدم حقيقى حتى نوقن أن الدين علاقة بين العبد وربه ولا واسطة بينهما.
◄◄ لكن ألا يمكن أن نعتبر أن الدين رافد أساسى ومهم فى تكوين الوعى والمجتمع؟
- أنا لست ضد الدين على الإطلاق، ولا نستطيع بأى حال من الأحوال أن ننفصل عن الدين، وكلما أقرأ القرآن وأتأمله أتأكد من أنه «معجزة» بكل معانى الكلمة، لكنى ضد الدولة الدينية، لأنها تسىء للدين ولا تنهض به، مثال على هذا شعار كل من الإخوان المسلمين وعلم السعودية، ففكرة ربط المصحف بالسيف تؤكد أن الإسلام انتشر بالسيف والقوة، وهذا غير صحيح على الإطلاق، والمصحف بما له من قدسية وبهاء أكثر إقناعاً من ألف أداة أى قتل، والإسلام علمنا أن الدعوة إلى الله يجب أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، لا بالسيف، ولذلك أنا أرى أن الدولة الدينية خطر على مستقبل مصر، لكنى أثق فى مصر وقدرتها على النهوض، لكن ليس على المدى القريب.
◄◄ ولماذا ليس على المدى القريب؟
- لأن هناك العديد من العوامل تساعد على انتشار التيار الدينى أهمها البطالة وسوء الحالة الاقتصادية، كما أن فكرة التغيير تتم ببطء غريب، ولا أفهم كيف تمر كل هذه السنين ولا تتغير الوجوه فى المواقع الكبيرة والمؤثرة، ووجود هذه الوجوه يصنع حالة من الإحباط واليأس، ومع هذا فأنا أثق فى مصر وقدرتها، وطوال تاريخ مصر مررنا بأزمات كبيرة وتجليات عظيمة، وكنا نتأرجح بين الصعود والهبوط، لكننا كنا قادرين بفضل ميراثنا وثرواتنا على النهوض مرة أخرى.
◄◄ ألا تساهم مشكلة «منابع النيل» وتهديد حصة مصر من المياه فى اهتزاز يقينك بإمكانية نهوض مصر؟
- هذه هى أكبر المشاكل التى تواجهنا على الإطلاق، ففى حالات انهيار الدولة كانت الناس تأكل بعضها بمجرد أن ينقص مقياس النيل لأقل من 16 ذراعاً، فهذا الخطر الذى يشبه الكابوس لأول مرة يطل علينا فى تاريخ مصر، ولا أبالغ إذا قلت إنه يهدد وجودنا وحضارتنا بشدة، والمشكلة الآن أن دول المنبع بدأت تتكتل ضدنا، ولا يجب أن نعلق المشكلة على إسرائيل فمع تسليمنا بأنها تتدخل ضد مصر، لكن هذا لا يعفينا من مسؤولية أننا نسينا أفريقيا ولم نفعل شيئا لصالح بلدنا من أجل إبطال مفعول التدخلات الإسرائيلية، بل على العكس نحن فرطنا فى وجودنا بأفريقيا وأغلقنا مصانعنا هناك.
◄◄ وبرأيك من المسؤول عن هذه المشكلة؟
- لائحة المسؤولين كبيرة، فللأسف نحن أدرنا ظهرنا لأفريقيا ولم نلتفت إليها إلا حينما تولى أحمد ماهر ومن بعده أبوالغيط وزارة الخارجية، وللأسف عمرو موسى أهمل أفريقيا واستمر فى السيناريو الذى بدأه السادات، والنتيجة الآن أننا لا نعلم شيئاً عن منابع النيل، وذلك نتيجة طبيعية لحكم السادات الذى ناصب منجستو هايلى مريام، حاكم إثيوبيا، العداء لمجرد كونه شيوعيا، والسادات يكره الشيوعية، وهذا أدى إلى توتر العلاقات مع إثيوبيا، والنتيجة أننا أصبحنا مهددين بانقراض النيل، والمسألة تحتاج إلى حشد وطنى كبير، ومحاسبة كل المسؤولين عن هذا الملف، وعلى رأسهم وزير الرى السابق محمود أبوزيد، ولدى معلومات مؤكدة أن أبوزيد هو الذى أوصل المشكلة إلى هذا المنعطف الخطير، ويجب محاكمة كل المسؤولين عن هذا الإهمال الذى يصل إلى حد الكارثة وعلى رأسهم أبوزيد.
◄◄ ما سبب هجومك الدائم على السادات حتى إنك قلت سابقاً إنه هو المسؤول عن حالة التصحر الثقافى فى مصر؟
- فى الحقيقة السادات تسبب فى كوارث كثيرة أكبر من أن تحصى، ومن السهل الآن أن أنتقد حسنى مبارك بينما من الصعب أن أنتقد السادات، وذلك لأن أصحاب المصالح يخرجون أنيابهم على منتقديه، لكننى أرى أنه أول من فتح باب الفساد، وعلى المستوى الثقافى فقد أسهم فى تدهور الحالة الثقافية بتوليته عبدالقادر حاتم لمسؤولية وزارة الثقافة، وعدائه غير المبرر للمثقفين واحتقاره لهم، وإصداره لقائمة 4 فبراير التى فصل فيها 104 كتّاب ومنعهم من الكتابة، وهؤلاء كانوا يشكلون جميع ألوان الطيف فى الثقافة، ما يدل على أنه يضطهد جميع المثقفين بلا استثناء، وبالمناسبة كانت هذه القائمة تضم كلاً من نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، ولولا تدخل أحمد كمال أبوالمجد لصدرت واسمهما يتصدرانها، وأقل ما يوصف به هذا التصرف أنه «مذبحة ثقافية».
◄◄ إذا سلمنا بفكرة أن السادات مسؤول عن «التصحر الثقافى» فكيف ترى المشهد الآن؟
- المشهد الثقافى تغير للأفضل الآن، وبالتحديد منذ عشر سنوات، بدأنا نشعر بأن الأمور تسير فى اتجاه إيجابى، وحينما شاهدت مسرحية خالد جلال المبهرة «قهوة سادة» تذكرت ظاهرة مسرح الستينيات والتقدم الفنى الذى كان يميزنا، وبشكل عام أرى أن هناك تقدماً ملحوظاً يحدث فى جميع الأجهزة الثقافية، وعلى سبيل المثال فما صنعه صابر عرب فى دار الكتب والوثائق القومية يعد أهم تطوير ثقافى حدث فى الشرق الأوسط، والهيئة العامة للكتاب تتطور وإن كان تطورها بطيئا، وهذا يواكب حركة الحيوية الموجودة بقاع الحياة الثقافية.
◄◄ كنت من أشد المهاجمين لوزارة الثقافة فلماذا اختفى هجومك عليها وتغير موقفك من الوزير؟
- هناك تحول بدأ يحدث منذ خمس أو ست سنوات، ولا يجوز أن نتجاهل المشاريع الثقافية الكبرى التى ترعاها السيدة سوزان مبارك، مثل مشروع القراءة للجميع ومكتبة الإسكندرية والمتحف الكبير، وتطوير الأقصر، والمشكلة الآن أن هذه المشاريع تتم بعيداً عن الناس، فالمائة والعشرون متحفا التى نملكها لا يتم استغلالها بالشكل الأمثل، وذلك لأننا لا نضع هذه المتاحف على خارطة شركات السياحة والمدارس، وسبب تغير موقفى من الوزير هو ظهور مشروع القاهرة التاريخية وتطوير شارع المعز، وبالرغم ما شاب المشروع من بعض الانحرافات، فإنه فى النهاية أحد أهم وأكبر المشاريع الثقافية فى القرن العشرين، وزاهى حواس يستحق جائزة عالمية على ما بذله فى ترميم قبة السلطان قلاوون وترميم وكالة بازرعة، وحينما رأيت شارع المعز شعرت بأن ما كنت أطالب به يتحقق.
◄◄ لكن ألا يعد غريباً أن يتزامن وقت حصولك على جائزة الدولة التقديرية مع تغيير موقفك من الوزير؟
علاقتى بفاروق حسنى الشخصية لم تنقطع، وأشهد له أنه أفضل وأجدع من ناس كثيرين أعرفهم من المثقفين، وأشهد له أنه تحمّل هجومى الكثير والذى وصل إلى تقديم بلاغ للنائب العام ضده بصدر رحب، وعلاقتى بحسنى قديمه جداً، وأيدته فى بدايته الوزارية، وخلافى معه بدأ حينما أطاح بأحمد قدرى، رئيس هيئة الآثار السابق، ولم تكن جائزة الدولة بعيدة عنى، ولو كنت أسعى لها لما انتظرت عشرين سنة حتى أحصل عليها، وكنت هادنت الوزير وصرت من أتباعه منذ البداية، ولو كنت أريد «لبن العصفور» كنت حصلت عليه، لكننى أبيت على نفسى هذا.
◄◄ماذا نفعل لكى نتجنب مشكلة خليفة فاروق حسنى، وكم واحدا يصلح لتولى منصب وزير الثقافة؟
- كثيرون يصلحون لهذا المنصب إذا افترضنا أن هناك قرارا بالتغيير، منهم مثلا كل من الدكتور عبدالمنعم سعيد، والدكتور فوزى فهمى الذى أرى أنه من أفضل الشخصيات الثقافية التى تعمل فى الظل، وأريد من وزير الثقافة المقبل، أياً كان اسمه، أن يعى مكانة مصر ويفهم دورها الثقافى، وأن يعمل ما يعلى هذه المكانة، وأن يفهم وضع مصر العالمى، وألا يضع نفسه فى تنافس سلبى مع باقى الدول العربية، فنحن نتكامل ولا نتنافس. ولحسن الحظ فمصر لا تنعدم من الأبناء المخلصين، بدليل تولى الدكتور أحمد الطيب لمشيخة الأزهر، الذى أعتبر قرار تعيينه من أفضل القرارات فى الفترة الأخيرة، لما يتميز به من نزاهة وإخلاص، وواجبنا أن ندعمه ونساعده على إتمام دوره المهم، لأنه للأسف قد تسلّم الأزهر مهلهلاً.
◄◄ بقيت حوالى17 سنة فى رئاسة تحرير أخبار الأدب وأعلنت أنك ستتركها قريباً.. فهل أنت راض عن هذه التجربة الطويلة؟
- أنا راض عنها تمام الرضا، وبقدر ما أعتز بهذه التجربة فإنى أنتظر قرار مجلس الشورى برحيلى عنها بفارغ صبر، وأتمناه اليوم قبل الغد، وأرجو أن يتولى أخبار الأدب أحد من أبنائها، لكى يستمر دورها التنويرى فى الأدب العربى.
◄◄ أليس من الغريب أن تقول إنك تنتظر قرار خروجك من أخبار الأدب بفارغ صبر، برغم اعتزازك بهذه التجربة؟
- هناك أمور كثيرة لا أريد التحدث عنها الآن، لكن بشكل عام أريد أن أقول إن تولى الإداريين لمؤسسات صحفية كبرى تجربة فاشلة، ولنا فى الأهرام أسوة حسنة، فالدكتور عبدالمنعم سعيد تولى إدارتها وهى فى وضع مأزوم، فصعد بها ووضعها فى مكانة تليق بها.
◄◄وهل حاول أحد أن يتدخل فى آرائك أو أن يجبرك على التخلى عنها طوال تاريخك الصحفى خاصة أنك رئيس تحرير جريدة تصدر عن مؤسسة رسمية ومع ذلك تعارض الكثير من توجهات الدولة؟
- بالطبع لا يقدر أحد على هذا، وأشهد أننا فى حالة من حرية التعبير تسمح بالاختلاف، لكننى لا أفهم مثلا كيف يحاول رئيس مؤسسة أن يجبر الكتاب والصحفيين على تأييد مرشح بعينه لرئاسة نقابة الصحفيين.. تخيل أن رؤساء المؤسسات كان يضغطون على الكتاب لتأييد مكرم محمد أحمد، ألا يعد هذا إهانة بالغة للصحافة والصحفيين، وبرغم احترامى وإجلالى لمكرم محمد أحمد فإننى كنت أدعو إلى تولى شاب لمنصب نقيب الصحفيين، لأن هذه النقابة بوصلة لحال مصر ونموذج مصغر لها، إذا انصلحت انصلح حال البلد، وإذا فسدت فسد، ومع ذلك سعى بعض رؤساء المؤسسات إلى إجبار الكتاب على تغيير قناعاتهم والمشاركة فى مهزلة انتخاب مكرم التى أثبتت أن التزوير قد يتم من خارج صندوق الانتخابات عن طريق تزوير الإرادات ومراقبة الضمائر، وإهانة الصحفيين، وهذا بالطبع ما لم أقبله.