لم يعرف العالم الإسلامى منذ بعثة النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، هذا الكم من الفتاوى الذى تخرج علينا كل يوم، وقد يقول قائل إن هذا نظراً لطبيعة العصر الذى نعيش فيه وكثرة المواقف التى يتعرض لها الناس يومياً.
قد يكون هذا مقبولاً، ولكن غير المقبول هو هذا السوق المنتشر على الفضائيات وعلى الصحف والمجلات الذى يخرج علينا فى كل وقت وحين بفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان، وأشغلت الناس بفتاوى مضلّلة من أشخاص لم تُعرف عنهم أين تلقوا العلم ومن أعطاهم إجازة بالفتوى، وهل هم مجتهدون أم أنهم ناقلون للفتاوى ولا يعرف لهم خبرة فى تنزيل الأحكام على الوقائع، ولا تمرُّس فى الفتوى.
وأصبح التشديد أو التيسير فى الفتوى لا حسب السائل أو واقع السؤال المراد، بل أصبحت الفتوى حسب القناة التى يذاع عليها البرنامج أو الصحيفة التى سوف ينشر بها الرأى.
وهكذا أصبحت الفتاوى وكأنها بضاعة رخيصة لا واقع لها فى حياة المسلمين، وبناء عليه خرج علينا من يتكلم فى الدين بدعوى أن من يسمون بمشايخ وعلماء هذا الزمان قد أفسدتهم الفضائيات، وأصبحوا يفتون على ذهب المعز وريالاته، وقد يكون لهم الحق فى ذلك، فقد وجدت شيخا يفتى فى موضوع برأى وعندما صعد نجمه وأصبح من مشاهير الفضائيات تغير الرأى وتغيرت الفتوى، ورغم ذلك لم يكن من المقبول أن يبدأ التحدث فى الدين من لا علم له ولا فقه، وكان من الأولى مساعدة وتزكية المؤسسات والمراكز الدعوية التى تخرج جيلا يستطيع أن ينهض بأعباء الاجتهاد فى الدين، خاصة وأن الأمة الإسلامية، اليوم وأكثر من أى وقت مضى، بحاجة إلى الخطاب الذى يأخذ بيدها ويوجهها نحو النهضة والارتقاء لاستعادة مجدها وسؤددها .
ثم خرجت علينا ظاهرة (إسلام لايت) وتبناها مجموعة من الدعاة الجدد كما أطلق عليهم واشتهرت الظاهرة التى خرجت من مصر وانطلقت إلى العالم وعرضت الدين على أنه منهج أخلاقى جميل لا يوجد فيه تقيد بأحكام ونصوص شرعية يجب الالتزام بها وكان هذا بدعوى أن آراء الفقهاء الذين كانوا يعيشون فى القرون السابقة لا تصلح لحياتنا الآن وإننا يجب أن نبحث عن ما يناسب حياتنا الآن، وقد يكون هذا دافعا قويا ليشمروا عن ساعدهم ويتعلموا ويجتهدوا فى دينهم لكى يبحثوا عن حلول شرعية لمشكلات المسلمين ولكن بدلا منها تحللوا من النصوص، وخرجت علينا فتاوى لا مصدر لها إلا الهزيمة النفسية أمام الغزو الغربى للعقل المسلم.
وكان من الطبيعى أن ينشأ جدل غريب على الأمة الإسلامية بين أطراف متعددة، على الفضائيات والمنابر الإعلامية، الجميع يدعى أنه الأصوب وكل طرف يرمى الآخر بتهم كثيرة، سواء بالتساهل أو بالتشدد من الطرف الآخر، وانشغل المسلمون بجدل عقيم لا فائدة منه إلا لأعداء الأمة الإسلامية الذين يتربصون بها الدوائر.
واستفحلت مشكلة الأمة الإسلامية بظهور كم أكبر من مشايخ وعلماء السلاطين الذين تصدوا للفتوى حسب هوى الحاكم ومتطلبات النظام، ومما زاد من خطر هذه المشكلة عدم وجود فئة من العلماء تتصدى لمثل هذه الفتاوى الباطلة والآراء الفاسدة.
وقد كانت الأمة الإسلامية عبر تاريخها الطويل كثر فيها العلماء البررة أصحاب المواقف الجريئة كالعز بن عبد السلام، الذين يدركون أهمية ما يقولون، وقيمة ما يتحدثون، فلا يمسخون أنفسهم، ولا يبخسون بضاعتهم وفتواهم، ولا يتحدثون إلا بالحق، ولا يطيعون الحكام فى معصية الله، ولا يركنون إلى الظلمة، ولا أصحاب الهوى.
إن الذى يتصدى للإفتاء يجب أن يحافظ على مكانته؛ فلا يصح أن يكون مفتيا تحت طلب الحاكم، يفتى له، ويفصل الفتوى تفصيلا يوافق هواه أو تبعتيه للغرب . كما يجب أن يحافظ على قيمة فتواه، فلا يصح أن تكون سلعة أو بضاعة تباع وتُشترى فى سوق النخاسة.
يقول الإمام النووى، رحمه الله، "اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر، كبير الموقع، كثير الفضل، لأن المفتى وارث الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- وقائم بفرض الكفاية ولكنه معرض للخطأ، مقدمة كتاب: المجموع شرح المهذب .
وهكذا ضاع حكم الله وتاه الناس بين المشايخ والعلماء، وأصبح البحث عن حكم الله فى المسائل من الصعوبة بشكل كبير مما جعل كثير من الناس يعرضون عن معرفة الحكم خوفاً من الغرق فى مشكلات لا حصر لها ولا علاقة له بها.
قد يكون الأمر الملكى الذى أصدره الملك عبد الله بن عبد العزيز بقصر الإفتاء على هيئة كبار العلماء، حل من ضمن حلول مطروحة لمعالجة مشكلة الإفتاء فى بلاد العالم الإسلامى، ولكنها ما زالت محل جدل كبير، خاصة وأن أهل السنة يختلفون عن الشيعة فى تحديد مرجعيات بعينها، خاصة وإن كانت قريبة من الدولة، فلن تجد لها ترحيبا من الناس.
إن الأمة الإسلامية بحاجة ماسة إلى أصحاب العلم والفضيلة فى هذا العصر، بحاجة إلى حضور العلماء المخلصين فى حياة الأمة، لا سيما فى ظل الأزمة التى تحياها الآن.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة