مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
المستشار ضياء الدين حسونة
بسم الله السلام، والصلاة والسلام على أنبيائه ورسله جميعاً من أدمٍ للختام، ((قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِى مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِى النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)) البقرة 136.
ثًم أما بعد؛ فقد بدأت العاصفة- وما نتج عنها من انفعالات وردود أفعال متباينة- بفيلم منخفض التكاليف أعده شخص متحمس، أو مجموعة من الهواة المتحمسين بهدف إثبات أن إسم محمد (ص) ورد فى سفر نشيد الأنشاد (الإصحاح الخامس، آية 16)، ولتحقيق تلك الغاية بإمكانيات متواضعة؛ فقد لجأ معدو الفيلم إلى شبكة الإنترنت، وجمعوا منها صوراً، وأجزاء من أفلام وثائقية ومقاطع صوتية من مواقع يهودية عبرية ومن غيرها، واستخدموا كل ذلك لصياغة وجهة نظرهم فى حدود المتاح لهم من خبرات كهواة، بعدها انتشر ذلك الفيلم بسرعة على مواقع الإنترنت، رغم أن المعلومات الواردة به ليست جديدة؛ فقد ذكرها الشيخ (أحمد ديدات) رحمه الله فى كتبه وفى محاضراته ومناظراته حول العالم قبل نحو ربع قرن أو يزيد، فى معرض حديثه عن دلائل نبوة محمد (ص) والبشارات التى وردت عنه فى "الكتاب المقدس" بعهديه؛ القديم والجديد، وخاصة بشارات العهد القديم؛ إذ يتفق أهل الكتاب من اليهود والنصارى على الإيمان بما ورد بأسفار العهد القديم، على الرغم من إنكار اليهود للعهد الجديد جملةً وتفصيلاً.
وقد ساعدت على انتشار ذلك الفيلم عدة عوامل أهمها؛ أولاً: قصر مدته نسبياً (18 دقيقة ونصف)، ووجود نسخ منه مترجمة للعربية، والترتيب المنطقى وبساطة عرض المعلومات، وقد وردت بالفيلم إشارات واضحة عديدة إلى استعانة معديه بمقاطع صوتية من مواقع يهودية، ولا غرابة فى ذلك؛ إذ إنهم- على أى حال- هواة بقدرات وإمكانيات محدودة. ثانياً: ساعد على انتشار الفيلم كذلك، ندرة المتاح فى عالمنا العربي- وفى مصر بالتحديد- من محاضرات ومناظرات الشيخ ديدات رحمه الله، وهى بالطبع أطول فى مدتها الزمنية، وتحتاج لقدر أكبر من الثقافة والوعى لفهمها ومناقشتها، بالإضافة لقلة المترجَم أو المدبلج منها إلى اللغة العربية (فجميعها أصلاً باللغة الإنجليزية)، ولذا وجد عامة المسلمين فى ذلك الفيلم القصير بديلاً يسهل فهم محتواه ونشره. ثالثاً: افتقاد غالبية المسلمين- عامتهم وخاصتهم- القدرة على البحث والدراسة المتأنية لفهم عقائد الآخرين، والتحاور مع الآخر بلغته التى يفهمها ويؤمن بها، ولذا تتحول معظم الحوارات بين أتباع الأديان والمذاهب والعقائد المختلفة إلى سباب متبادل لجهل كل طرف بحقيقة ما تؤمن به الأطراف الأخرى، وبالتالى عجزه عن إثبات وجهة نظره بالحوار الهادئ الواعي، وقد وفر ذلك الفيلم للمسلمين وسيلة سهلة وواضحة لعرض وجهة نظرهم فى مسألة بعينها.
وقد ظل الفيلم متداولاً على شبكة المعلومات الدولية، حتى نشرت عنه جريدة مهمة تحقيقاً صحفياً، وردت به بعض المعلومات الصحيحة، والكثير من المعلومات الغير دقيقة، نظراً لعدم إلمام القائمين على التحقيق بأبعاد الموضوع كاملة قبل التصدى لنشره، وعدم دراستهم الكافية والمُتأنية لما يثيره الفيلم من مسائل دينية ولغوية تحتاج لقدر من التخصص، فقد كان الفيلم نفسه- على ما يبدو- هو مصدر معلوماتهم الوحيد فى تلك القضية الهامة. بعد ذلك أثير الموضوع إعلامياً على قناتين تليفزيونيتين، فكان لزاماً على الإخوة المسيحيين أن يهبوا للدفاع عن عقيدتهم والرد على ما يثيره الفيلم من أفكار؛ فأفردت قناة مسيحية ساعتين كاملتين، أولاً: للرد على مناقشات الفيلم إعلامياً، وثانياً: للرد على محتوى الفيلم نفسه، وإن كانت معظم الردود اللاذعة قد انصبت على المناقشات الإعلامية؛ لعدم دقتها فى طرح الموضوع، وطالب مقدما البرنامج باعتذار الجريدة والقناتين عن إثارة موضوع لا أساس له من الصحة، وقد تركز رد القناة فى عدة نقاط نوردها تباعاً، ونرد عليها باختصار فيما يلى، ونسأل الله عز وجل التوفيق والسداد ((قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى يَفْقَهُوا قَوْلِي)) طه 25- 28.
النقطة الأولى: قالوا أن الفيلم مزور ومسروق، ولا تقف وراء إنتاجه جهة محترمة أو حتى جهة معلومة، واستُخدِمَت فى إعداده مواد ومواقع و(ناطق صوتى آلى) من شبكة الإنترنت، والرد على ذلك: كما أوضحنا فى صدر المقال، أن الفيلم أعده مجموعة من الهواة بما أتيح لهم من إمكانيات محدودة، واستعانوا فى ذلك بمواد من شبكة المعلومات، والفيلم نفسه يشير إلى تلك الحقيقة بوضوح، ولم يدَّع معدوه عكس ذلك، ولا يمكن بحال أن يُنسَب التزوير والتزييف لعمل هواة، نتج عنه فيلم متواضع تقنياً، الهدف منه عرض وتوضيح وجهة نظر محددة، وإن كانت هذه النقطة بالذات تصلح للرد على ما أثير إعلامياً من أن الفيلم أعده مجموعة من علماء الأديان والعقائد المقارنة من ممثلى الأديان السماوية الثلاث! وهى بالتأكيد معلومات غير صحيحة لا دليل عليها، أساءت لمحتوى الفيلم، ووضعته فى إطار أكبر بكثير من حدوده وإمكانياته الفعلية، والتى لم يدَّع القائمون عليه أكثر منها.
النقطة الثانية: قالوا أن (نشيد الأنشاد) سفر شعري، وليس من أسفار التوراة (وهى الأسفار الخمسة المنسوبة لنبى الله موسى؛ التكوين، الخروج، اللاويين، العدد، التثنية)، والرد على ذلك: أن (نشيد الأنشاد) وإن كان سفراً شعرياً، إلا أنه- على أى حال- سفر من أسفار العهد القديم، وهو حجة على من يؤمنون به، لأنه يوجد بين دفتى "كتابهم المقدس" ولا يستطيع أهل الكتاب إنكاره، وإن اختلفوا فى تفسيره، فهو فى عرفهم جميعاً وفى تفسير أهل العلم منهم، سفر شعرى رمزى تكلم فيه كاتب السفر بالروح- وهو سليمان الحكيم- بإسلوب روحى مجازى عن قصة حب بين حبيب ومحبوبته، وهو قطعة أدبية تصور جمال الحب بين الملك وزوجته، وقد آمن اليهود منذ القدم أن ذلك الحب رمز للعلاقة بين الله وشعبه إسرائيل، ويؤيد ذلك الفهم عندهم أن السفر يسمى أيضاً (نشيد سليمان)، فاليهود لا يعترفون بالمسيحية أصلاً، وقد فسر المسيحيون النص نفسه على نحو يخالف ما فهمه أصحابه الأصليون من اليهود، واعتبروه بشارة أخرى بالمسيح، وهم يؤمنون أن فى العهد القديم مئات البشارات والنبوءات عن قدوم المسيح المخلص، دون دليل واضح وصريح يؤيد هذا الإيمان، فكلها إجتهادات فى تفسير النصوص وتأويلها بما تحتمل وبما لا تحتمل، ونحن نسأل.. أليس هذا المنهج فى التفسير هو نفس المنهج الذى ينتقده المسيحيون بشدة حين يُفسَّر نص فى (نشيد الإنشاد) أو غيره على أنه نبوءة تبشر بمحمد (ص)؟، ونعود إلى النص محل الخلاف فى (نشيد الإنشاد)، فقد آمنت الكنيسة وأتباعها، أن هذا السفر يمثل نبوءة مستقبلية عن إنسان لم يأت بعد، أى أنه لم يكن موجوداً فى الزمن الذى كُتِب فيه السفر، وبالتالى فسروا قصة الحب فيه كرمز للعلاقة بين المسيح (العريس) وعروسه الكنيسة، أو بين المسيح والنفس البشرية، فقد فسر كل فريق من أهل الكتاب هذا السفر بالكيفية والمفهوم الذين يخدمان عقيدته، وإذا سلمنا نحن بأن النشيد يتحدث- بشكل رمزي- عن إنسان لم يكن موجوداً على الأرض فى زمن كتابته، نكون أمام احتمالية تقبل التفسير على أكثر من وجه، والقول الفصل فى ذلك يتحدد من خلال مفردات وألفاظ وسياق النص فى لغته الأصلية.
النقطة الثالثة: قالوا أن كلمة מחמד (محمد) العبرية وتعنى مشتهى، وردت فى العهد القديم من الكتاب المقدس بتصريفات ومشتقات كثيرة وفى مواضع عديدة غير نشيد الأنشاد، وأوردوا لذلك عدة نماذج مدعمة بالنطق الصوتى وكلها تنويعات على نفس الاشتقاق اللغوى (مثلاً: خروج 17:20، مزمور 16:68، ميخا 2:2، مراثى 4:2، هوشع 16:9)، وكلها تُترجَم فى سياقها بمعنى المشتهيات أو الشهوة وما يتفرع عنهما أو يماثلهما من معانٍ، ولا يمكن بحال أن تُترجَم كإسم علم يشير إلى نبى الإسلام محمد، والرد على ذلك: أن لفظ الحمد ورد بمشتقاته المختلفة أيضاً فى عدد كبير من الآيات القرآنية مثل قوله تعالى ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)) الأنعام: 1، وقوله تعالى ((وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْحَمْدُ فِى الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ ۖ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) القصص: 70، وكذلك قوله تعالى ((لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) آل عمران: 188، وقوله تعالى ((تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)) الإسراء: 44، وقوله عز وجل ((فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)) النصر: 3، فهل ينفى ذلك أن آيات قرآنية أخرى تضمنت كلمة محمد أو كلمة أحمد- وهما مشتقتان من نفس مادة الحمد- وجاءت الكلمة فى سياقها كإسم علم لرسول الإسلام صلوات الله وسلامه عليه؟ بالطبع لا، ولا يقول بذلك عاقل منصف، ومثال ذلك الآية الكريمة ((وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِى إِسْرَائِيلَ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَى مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ)) الصف: 6، والآية الكريمة ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)) آل عمران: 144، وكذلك قوله تعالى ((مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)) الأحزاب: 40، وقوله تعالى ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۙ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ)) محمد: 2، وكلها آيات بينات توضح المعنى المقصود؛ وهو أن ورود كلمات مشتقة من مادة الحمد فى آيات معينة، لا ينفى وجود كلمات أخرى مشتقة من نفس المادة وردت كإسم علم.
النقطة الرابعة: قالوا أن المحتوى نفسه والسياق- فى الآية المختلَف فيها- لا يصلحان لاستبدال كلمة (مُحَمَّد) كإسم علم بكلمة مشتهيات الواردة فى النص (نشيد الأنشاد 16:5)، والرد على ذلك: أن النص محل الخلاف ورد فى الأصل العبرى وفى ترجمته إلى اللغتين العربية والإنجليزية كالآتى:
חכו ממתקים וכלו מחמדים זה דודי וזה רעי בנות ירושלם
حلقه حلاوة وكله مشتهيات. هذا حبيبى وهذا خليلى يا بنات أورشليم
His mouth is most sweet; yea, he is altogether lovely. This is my beloved, and this is my friend, O daughters of Jerusalem.
والكلمة الواردة فى النص العبري- والتى ثار حولها الخلاف- هى كلمة מחמדים وتنطق (مُحَمَّدِم) أو بالإنجليزية Muhammad-IM))، وقد تُرجمَت هذه الكلمة العبرية فى الترجمة الإنجليزية إلى كلمتين هما (altogether lovely)، وكذلك تُرجِمَت فى النص العربى إلى كلمتين هما (وكله مشتهيات)، واللغة العبرية تُكتَب وتُقرأ من اليمين إلى اليسار، مثلها فى ذلك مثل اللغة العربية، وكلمة (كل) فى اللغة العبرية متطابقة نطقاً مع نفس الكلمة فى اللغة العربية، ويتضح من النص العبرى أنه لا وجود لها فى السياق قبل أو بعد كلمة (مُحَمَّدِم)، وبالتالى فإنه- وحتى تستقيم ترجمة النص- يجب أن توضع كلمة (مُحَمَّدِم) مكان الكلمتين اللتين أدخلهما المترجمون على النص قصراً بغير حق، فيستقيم المعنى، ويتضح ذلك بشدة فى الترجمة الإنجليزية المذكورة، إذ تُصبح ترجمة النص المُحتملة والمعقولة جداً كالآتي، بعد اكتمال أوصاف الحبيب الذى يتحدث عنه السفر رمزياً ويبشر به:
His mouth is most sweet; yea, he is (Muhammad). This is my beloved, and this is my friend, O daughters of Jerusalem.
وفى الترجمة العربية " فمه (كلامه) هو الأكثر عذوبة، إنه (مُحَمَّد)، هذا حبيبى وهذا خليلى يا بنات أورشليم"
النقطة الخامسة: قالوا أن معدى الفيلم اقتطعوا جزء من الكلمة الواردة فى النص، وليس الكلمة كلها، وأن أى اجتزاء لكلمة فى أية لغة يمكن أن يغير المعنى تماماً ويحولها إلى كلمة أخرى، مثل كلمة (جميل) فى اللغة العربية التى تتحول إلى كلمة (جمل) إذا حذفنا حرف الياء، وكذلك كلمة (مُحَمَّدِم) التى حولها الفيلم إلى (مُحَمَّد) بحذف آخرها. والرد على ذلك: أن الجزء المحذوف من الكلمة هو صيغة لجمع التعظيم، ومثاله كلمة אלהים (إلوهِم) العبرية التى وردت فى سفر التكوين بمعنى الله (وسنوضح ذلك فى النقطة التالية بإذن الله)، وإذا افترضنا جدلاً وجود لفظ (مُحَمَّد) كإسم علم فى النص العبري- سواء فى نشيد الأنشاد أو فى أى موضع آخر من العهد القديم- فإن الكلمة ستكون مماثلة تماماً لكلمة מחמדים (مُحَمَّدِم) التى تُرجمت إلى (كله مشتهيات)، وستكون مكتوبة بنفس الحروف، وتُنطَق بنفس الكيفية؛ لأنها من نفس الأصل أو الجذر فى اللغة العبرية، وقد وردت الكلمة بالفعل فى النص العبري، وجاءت متوافقة تماماً مع السياق كما أوضحنا، ومن الوارد جداً أن تكون إسم علم، ومن القواعد الأولية- التى لم يلتزم بها مترجمو "الكتاب المقدس" بعهديه- أن أسماء الأعلام لا تُترجم بمعانيها، ولكن تُنقَل كما هى دون ترجمة، فإذا كان إسم الشخص فى نص من النصوص (Mr. Black)، فإنه يُترجم إلى العربية (السيد/ بلاك) ولا يترجم إلى (الرجل الأسود)، وهو المنهج الصحيح الواجب اتباعه فى الترجمة إلى أى لغة من لغات العالم.
النقطة السادسة: قالوا أن صيغة الجمع فى الكلمة العبرية מחמדים (مُحَمَّدِم) الواردة فى النص هى صيغة جمع حقيقية وليست صيغة جمع للتعظيم، فلفظ מחמד (محمد) هو صفة بمعنى (مشتهى) وجمعها מחמדים (محمدِم) أى (مشتهيات)، والرد على ذلك: أن اللغات الشرقية- ومنها العربية والعبرية- تعرف نوعين من الجمع هما؛ الجمع العددى الحقيقى للدلالة على الكثرة الفعلية، والجمع المجازى المستخدم للتعظيم والتوقير، ومثاله كلمة אלהים (إلوهِم) المستخدمة فى اللغة العبرية للدلالة على لفظ الجلالة (الله)، وترد فى صيغة الجمع للتوقير والاحترام والتعظيم، ولا يجرؤ يهودى عاقل، أو دارس للغة العبرية على القول بأن الجمع هنا جمع حقيقى يدل على تعدد الآلهة! أو حتى تعدد الصور والتجليات لنفس الذات الإلهية، وإن كان المسيحيون قد استخدموا ذلك اللفظ فى أكثر من مناسبة وأكثر من سياق، لتدعيم عقيدة التثليث (Trinity) التى يؤمنون بها، وقالوا أن اللفظ الدال على (الله) فى العهد القديم جاء فى صيغة الجمع، فى إشارة واضحة للآب والإبن والروح القدس، وهو قول مردود عليه بقواعد اللغة العبرية، وبأن علماء اليهود- وهم أرباب تلك اللغة والأقدر على فهمها- لم يدعوا أن الجمع فى كلمة (إلوهِم) يشير إلى التعدد، بل ويرفضون فكرة المسيحيين عن ذلك رفضاً قاطعاً، ونحن نوافقهم فى هذا. أما فى اللغة العربية، فإن الأمثلة على جمع التعظيم أكثر من أن تُحصَى، فحين يقول المولى عز وجل فى القرآن ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) الحجر: 9، أو يقول فى موضع آخر ((إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ)) مريم: 40، وفى موضع ثالث ((إِنَّا نَحْنُ نُحْيِى الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ)) يس: 12، وقوله تعالى ((إِنَّا نَحْنُ نُحْيِى وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ)) ق: 43، فلا يقول عاقل بأن الجمع فى تلك الآيات جمع حقيقي، وحتى فى حياتنا اليومية وتعاملاتنا حين يُقال مثلاً: أمَرنا نحن فلان رئيس النيابة، أو نحن فلان ملك البلاد، فكلها أمثلة على جمع يقصَد به التعظيم أو التوقير، ولا يمكن تفسيره بأنه جمع حقيقي.
النقطة السابعة: قالوا أن المسلمين يبحثون دائماً فى كتب الآخرين عن لمحة تؤيد عقيدتهم التى لا يثقون فى صحتها، وأنهم فى حاجة دائمة لتأكيد يُزيل الشكوك التى تراودهم فى إيمانهم، ونتيجة ذلك أنهم يتهافتون على أى معلومة ولو كانت غير دقيقة أو كاذبة، والمفترض أن يكون كتابهم كافٍ لتكوين عقيدتهم والثبات عليها، وألا يحتاجوا لمصادر خارجية يثبتون بها لأنفسهم ما عجزوا عن الاقتناع به، والرد على ذلك: أننا والحمد لله نؤمن بعقيدتنا إيماناً يقينياً راسخاً، لا يقبل الشك ولا يأتيه الباطل، ولكننا نتحاور مع آخرين لا يؤمنون بعقيدتنا، والحقيقة أن ما يقرب من ثلث مجموع آيات القرآن الكريم يتحدث عن أهل الكتاب وعقائدهم، ونحن مأمورون فى كتابنا أن نخاطب الآخرين ونجادلهم، وندفع الحجة بالحجة فى حوار متحضر ((ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)) النحل: 125، وتأمل قول الله تعالى ((وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِى هِى أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـٰهُنَا وَإِلَـٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)) العنكبوت: 46، ونحن مطالبون بأن نوضح عقيدتنا للآخرين وندعوهم إلى النور الذى أنزله الله وحياً على قلب خاتم رسله محمد (ص) ((قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ)) يونس: 108، وقد خص الله أهل الكتاب بقوله ((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) آل عمران: 64، والأمثلة الأخرى على أننا مكلفون بالبلاغ أكثر من أن تحصى، فكيف السبيل لهذا البلاغ- الذى أمرنا الله به- وكتابنا ليس حجة فى مواجهة الآخرين، خاصة أهل الكتاب؟ الحل المنطقى هو أن نجادلهم بما ورد فى كتبهم، وهى حجة عليهم، فنحن نبحث عن دلائل تكون حجة على أصحابها، وليس عن براهين تؤيد إيماناً نشك فيه! فما أغنانا عن هذا وكتابنا وعقيدتنا تكفينا، لأنها عقيدة مكتملة فيها الخير للبشر أجمعين، مسلمين وغير مسلمين، ويكفينا أن فى قرآننا آية لو نزلت على غير المسلمين لاتخذوا يوم نزولها عيداً، جاء فيها ((الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)).
وختاماً، فما قصدنا بهذا المقال إلا وجه الله، ثُم إثراء منهج الحوار المتحضر، والرد على الحجة بالحجة، فالحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات، ونسأل الله- جل فى علاه- التوفيق والسداد، فمنه المبتدأ، وإليه سبحانه المنتهى. اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى اللهم وسلم على سيدنا محمد الدرة الفريدة فى عقد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اتبع سنته وسار على منهجه وهديه إلى يوم الدين. (مستشار/ضياء الدين حسونة توفيق)
مشاركة