أن يعود إليك الوعى متأخرا أفضل من ألا يعود إليك أبدا.. تماما كمن يستيقظ متأخرا، فيضطر للركض طوال اليوم ليعوض ما فاته أو ليلحق بما قد يفوته، مقارنةً بمن يستمر يغط فى نوم عميق ليل نهار بلا أدنى شعور بالمسئولية.
مناسبة الحديث رسالة تلقيتها متأخره بعض الشيء، لأسباب لوجستية وتقنية، من صديقى د. صلاح الدين بوجاه وهو روائى وناقد ورئيس اتحاد الكتاب التونسيين وعضو البرلمان السابق (لمدة عشر سنوات)، والذى اختار لنفسه أن يتخلى عن كل ألقابه ويوقع رسالته التى ناشدنى نشرها، بعبارة "مثقف تونسى"، فى إشارة جلية لتبدل خياراته وأولوياته.
متن الرسالة يحوى إقرارا بخطأ انضواء المثقف تحت لواء منظومة السلطة والتحزب، حيث كتب بوجاه: بعد تفكير طويل، ناتج عن الهبة الشعبية القوية، التى طوحت بالنظام السابق، وعصفت برموزه، ومقرَاته ورؤاه.. أزمعتُ، اليوم، الإعلان الصريح عن استقالتى من عضوية "التجمع الدستورى الديمقراطى"، ولزوم الاستقلالية المطلقة إزاء كل التنظيمات، فلا يسار ولا يمين، وقد آن للمثقف أن يستأثر بالنصيب الأكبر فى حياتى.
توبة بوجاه النصوح وندمه على تورطه فى العمل الحزبى ليست متأخرة، فقد سبق له أن حدد موقفه من إشكالية موقف المثقف من السلطة فى حوار منشور منذ حوالى ست سنوات بقوله: إننى كروائى سيد نصى.. وإنّ الحزب سيد نفسه.
رسالة بوجاه ذكرتنى بحوار دار بينى وبينه داخل قطار كان يقلنا لندوة تم تنظيمها فى مكتبة الإسكندرية منذ نحو ثلاثة أشهر عن روايته المتميزة "لون الروح"، حيث نبهته إلى أن دبلوماسية صغيرة فى سفارة تونس تتعامل مع المثقفين والإعلاميين المصريين، بل وطاقم السفارة ذاته بشكل غير لائق وسخيف، وإننى تحريت عنه- من المصادر العلنية- فتبين أنها تنتمى لعائلة فاسدة هى عائلة "الطرابلسى"، فأكمل لى بوجاه الصورة، موضحا أنها عائلة قرينة الرئيس (المخلوع)، وفوجئت بعد ذلك بعدة أيام بوثائق ويكليكس تؤكد الشبهات والاتهامات ضد قرينة زين العابدين وأسرتها.
أهمية رسالة المثقف التونسى النابعة من تجربة ذاتية يمكن استخلاصها من قوله: لقد جعل "التجمع الدستورى الديمقراطى" من المثقفين كلهم، فى الداخل والخارج مجرد تابعين، وأفرغ حياتهم من كل معنى، لهذا فإننى على يقين أنَ غاية اتحاد الكتاب مستقبلا، والجمعية النقابية للكتاب، واتحاد الفنانين التشكيليين، واتحادات السينمائيين، ورجال المسرح، وكل التشكيلات التحررية الممكنة تتمثل فى ضرورة البحث عن معنى، داخل نصوصهم وأعمالهم الفنية، وفى الحياة العامة، وفى المحافل كلها فى الداخل والخارج، على اعتبار أنَ المثقف حقا ضمير الشعب.
وأخيرا أناشد كل مثقف عربى أو مبدع متحقق فى أى قطر شقيق عدم الاستيقاظ متأخرا جدا، وأن يعتبر رسالة المثقف التونسى رسالة شخصية إليه هو أيضا، وأن يعيد حساباته: هل نافق؟ هل تخلى عن دوره؟ هل آثر السلامة فى وقت كان من الأجدى فيه أن ينبه لمكمن الخلل أو الخطر؟
وعلى طريقة ممدوح فرج أقول: مصداقيتك وضرورة الاستيقاظ فى الموعد المناسب مسئولية كبيرة جدا.. هاى بقولك أنت.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة