هو أستاذ جامعى صديق قد طعن فى السن مثلى، آنسُ إلى الجلوس إليه كثيرا، لكنى هذه المرة وجدته حزينا قلقا، كأنه يحمل جبلا فوق صدره، فحاولت أن أخفف عنه، فسألته عما يحزنه ويقلقه، وبعد تردد قال: إنك تعلم كيف أصبحت منذ عدة سنوات أتكفل بابنتى وولديها، لكن هذه المرة فوجئت بحفيدى يحتاج إلى مصاريف تزيد على السبعة آلاف جنيه، أى ضعف مرتب مثلنا الشهرى، حيث لم يصل، بعدما يصل إلى خمسين عاما أستاذا فى التعليم الجامعى، أربعة آلاف جنيه، فى الوقت الذى أقرأ فيه عن أن مرتب مدرب كرة قدم «محلى» بلغ مائة وعشرين ألف جنيه شهريا!
فسألته: لكن يا صديقى: ما الذى دفعكم إلى إلحاق الحفيد بهذه المدرسة مرتفعة المصروفات، وهناك مدارس للدولة، لا تتطلب إلا مبلغا بسيطا للغاية؟ فقال: أنت تعلم أن مدارس الدولة مع الأسف الشديد قد أصبحت مجرد أماكن للإيواء، لا يتم فيها تعليم حقيقى، وإلا: قل لى بربك: كيف يعلم المعلم تلاميذ قد يزيد عددهم فى الفصل الواحد على ستين تلميذا فى دقائق تزيد على نصف الساعة بدقائق تعد محدودة؟
سألته، فهناك مدارس خاصة ربما تتقاضى نصف هذا المبلغ؟ قال جربناها، حيث قضى فيها الحفيد من الحضانة إلى الإعدادية، لكن كثافة الفصل فيها بدأت تزيد على الأربعين تلميذا فى الفصل الواحد، مما لابد أن تكون له آثاره السلبية على التعلم والتعليم، فألحقناه بمدرسة تقع فى منطقة وسطى بين مدارس أخرى تتقاضى ضعف هذا المبلغ، وهذه السابقة التى تتقاضى ما يقرب من نصفه.
ثم استأنف صديقى، قائلا إن المسألة ليتها تقف عند حدود المصاريف السنوية، فقد لاحظ أن حفيده، لم يذهب يوما إلى المدرسة، فسأله عن هذا؟ أجاب الحفيد: أن لديه درسا خاصا فى مكان آخر يبدأ فى الثامنة صباحا! فحاول الصديق أن يحبس ضيقه عن حفيده، سائلا إياه: يا بنى إذا كنا قد ضحينا بأموال تفوق طاقتنا لتتعلم فى مدرسة قيل إنها متميزة، فكيف لا تذهب إليها، وبدلا من ذلك تتعاطى دروسا خصوصية، حيث المصروفات الشهرية، تتعدى الألف من الجنيهات؟
أجاب بأن التعليم فى المدرسة أفضل فعلا من سابقتها، لكن «الدروس» الآن ضرورية، فهى «الثانوية العامة» يا جدو، وما أدراك ما الثانوية العامة؟ فأكمل الصديق بينه وبين نفسه: فعلا! إنها الثانوية العامة: «يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد»!!
كأننى، وأنا الذى تصورت أنى أسعى إلى التخفيف عن الصديق، أستاذ الجامعة الطاعن فى السن، وينتظر لقاء ربه بين لحظة وأخرى، قد فتحت «دملا» كان متورما، محتقنا، يمتلئ بالصديد المخيف!
انطلق وكأنه يكاد يصرخ: يا عزيزى، لقد كان من أكبر نعم الله على الإنسان أن خصه بالقدرة على التعلم والتعليم، هذه النعمة التى تفتح من الآفاق والمجالات لصور تقدم ونهوض إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فأصبح التعليم «نعمة» تؤدى بالإنسان إلى الخير العظيم، حتى إن رسول الله، بدلا من أن يتسلم مالا ومادة نظير الإفراج عن الأسير، بعد غزوة بدر، يطلب أن يُعلم الأسيرُ المتعلم، مسلما، ومن هنا حق لأستاذ فى علم النفس كبير «الدكتور سيد عثمان» أن يؤلف كتابا عنوانه «بهجة التعلم»، معتبرا التعلم وكأنه سبيل إلى الاستمتاع بكل نعم الله الكونية البشرية.. وها هو الآن يصبح «محنة» للأسرة المصرية وتصور يا سيدى، أن المصريين الذين أذهلوا العالم بثورتهم فى يناير الماضى، لم يقربوا حتى الآن، وقد مر على اندلاع الثورة ما يصل إلى تسعة شهور، من التعليم ليعودوا به «منحة» و«نعمة» إلهية تُسعد الناس وتبهجهم، وليس «محنة» و«نقمة»، تمتص دماءهم وعرقهم وتدفعهم إلى القلق والاضطراب، مع أن هذا هو التعبير الصحيح عن الثورة، إذا كان أصحابها يريدون أن تكون ثورة حقيقية!
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
سعد عيسى
محنة التعليم وترزية المناهج
عدد الردود 0
بواسطة:
Mona
بعض الحقائق الهامة