لم يعد خافيًا على أحد حجم تباين الرؤى بين العديد من القوى الرئيسة والمحورية فى مصر، نتيجة سعى كل طرف لتطبيق رؤيته فى بناء "مصر ما بعد 25 يناير"، وهو سعى محمود طالما غلبنا المصلحة العامة للوطن، فى هذه الفترة الحرجة، على مصالحنا الخاصة أو الحزبية.
والمدقق فى المشهد السياسى، يمكنه أن يلاحظ أن "صراع أو تباين الرؤى" يرجع إلى عدد من الأسباب، لعل أهمها فى اعتقادى أن لكلٍ من القوى الرئيسة خلفيته الخاصة، سواء كانت خلفية عسكرية أو أمنية أو سياسية أو حتى دينية، فضلا عن "الخلفية الثورية"، التى تجسدت مع نجاح الثورة المصرية، وببعض التحليل لمواقف ورؤى التيارات والقوى المختلفة كل على حدة، يمكننا أن نتبين ما يلى:
أولاًـ المجلس العسكرى: بعيدًا عن الجدل الدائر بشأن المجلس العسكرى، وهل كان جزءا من عصر مبارك أم أنه كان يؤدى دوره المنوط به فى حماية البلاد سواء قبل الثورة أو بعدها؟ لأن هذا الجدل يحتاج إلى مقال مستفيض، فإن موقف المجلس العسكرى إزاء العديد من القضايا يمكن فهمه ـ مع افتراض حسن النية ـ فى ظل الخلفية العسكرية.
فالمؤسسات العسكرية فى أى مكان من العالم، من المفترض أنها حامية لحدود الوطن وحامية للشرعية والدستور، ومن ثم فهى تحمى ولا تقوم بالتغيير، أما فى اللحظات الاستثنائية النادرة التى تقوم فيها المؤسسات العسكرية بالتغيير فهذا ما نسميه بـ "الانقلابات العسكرية" .
وبعد ثورة 25 يناير، كان على المجلس العسكرى فى مصر أن يكون طرفًا محوريًا فى منظومة التغيير، وكان عليه أن يتخذ العديد من القرارات والإجراءات المصيرية.
ومع أن هذه الخطوات كانت تأتى متأخرة، وقد يشكل بعضها تجاهلا للقوى السياسية، إلا أن هذه القرارات كانت تصب فى نفس الاتجاه، وهو أن المؤسسات العسكرية تميل إلى "الطابع المحافظ"، وتسعى لأن يكون التغيير خطوة خطوة وليس راديكاليًا، خوفا من أن يؤدى الاستئصال الكامل والسريع لعناصر وأركان النظام السابق إلى انهيار الدولة بأكملها، وأدى هذا النهج من قبل المجلس العسكرى إلى الصدام مع قوى أخرى أو على الأقل إلى الخلاف معها.
ثانيًاـ القوى الحزبية، سواء كانت أحزاب أو جماعات انبثقت منها أحزاب فيما بعد، وهذه القوى عانت قبل الثورة، بسبب الأجهزة الأمنية، التى كبلت حركتها من جهة، واخترقتها وأرهقتها فى صراعات داخلية من جهة أخرى، فضلاً عن منعها لجماعات التيار الإسلامى، من تأسيس أحزاب لها، وملاحقة أعضائها، سواء أمنيا بالاعتقال أو بتقديمهم للمحاكم الاستثنائية .
وبعد الثورة انفتحت أبوب العمل السياسى على مصراعيها أمام الأحزاب والتيارات بشتى توجهاتها، ووجدت تلك القوى أن عليها أن تتوافق مع بعضها البعض، وعليها كى تتوافق أن تتنازل فى بعض آرائها.
لم يكن ذلك الأمر سهلا، سواء بالنسبة لمحترفى السياسية من أحزاب لها تاريخها أو للأحزاب الوليدة، وسواء لجماعات متمرسة مثل الإخوان المسلمين، أو لجماعات دخلت الحياة السياسية بعد الثورة مثل السلفيين، لم يكن الأمر سهلا، لأن تلك القوى لها خلفياتها وأفكارها وأيدلوجياتها المختلفة بل والمتعارضة، كما أن بعضها لم يتقن بعد فن التفاوض ومبادئه.
ثالثاـ ائتلافات شباب الثورة: دعا قادة هذه الائتلافات بإخلاص ووطنية إلى 25 يناير وأعدوا لها العُدة، وكان من الطبيعى أن يكون لمن دعوا للثورة رؤيتهم الخاصة لمستقبل بلادهم، وأن تتضمن تلك الرؤية قرارات وإجراءات ثورية جذرية وسريعة، تتعلق بشكل وجوهر ومضمون النظام الجديد، على اعتبار أننا نبدأ "بعد ثورة أطاحت بنظام"، وليس "بعد حدث سياسى أسقط حكومة "، إلا أن تلك الرؤية أو "الخلفية الثورية" كان عليها أن تصطدم برؤية المجلس العسكرى "المحافظة"، بل ورؤى بعض القوى الحزبية والدينية لشكل النظام السياسى للدولة وخريطة الطريق الملائمة لتحقيق أهداف الثورة.
رابعًاـ الحكومة: تعد وزارة الدكتور عصام شرف، هى الأضعف بين القوى المؤثرة خلال هذه المرحلة، ليس لأنها تملك وزراء غير جديرين بمنصب الوزارة، بل على العكس، فهناك وزراء ومسؤولون فى هذه الحكومة على أعلى مستوى من العلم والخبرة والوطنية.
ولكن ما يجعل هذه الحكومة ضعيفة، هو ضغوط القوى الثلاث الأخرى، الأمر الذى حولها من "حكومة ثورة" جاءت من الميدان ممثلة له ومعبرة عنه لتحقيق تغيير جذرى فى السياسات، إلى حكومة تسعى للتوفيق بين القوى المتباينة، وأصبح عليها أن تواكب "ثورية" الشباب، وتتفهم "مخاوف" قادة المجلس العسكرى، وتعبر عن "مطالب" الشعب والقوى السياسية من أحزاب وجماعات وتيارات.
إن ما يمكننا أن نستنتجه من استعراضنا لمواقف القوى الأربع التى ذكرناها، وخلفياتهم بدءا من "العسكرية" وحتى "الدينية"، هو أن تلك القوى يملك بعضها اتخاذ القرار ويملك بعضها الآخر التأثير فيه وصنعه، ومن ثم، فإنه علينا، بدلا من الصراع الدائر والاتهامات المستمرة، أن نحاول أن نستفيد من إيجابيات كل فصيل من هذه القوى من دون الدخول معه فى معارك جانبية لأن المصلحة العليا للوطن تحتم ذلك..
فعلينا أن ندفع الأحزاب بمختلف توجهاتها وأيدلوجياتها إلى زيادة نشاطها السياسى وتدريب أعضائها على الجولات الانتخابية، وعلينا أن ندفعها إلى النزول للشارع بشكل أكثر فاعلية وعرض برامجها للجماهير والمساهمة فى نشر الوعى الانتخابى ومبادىء الديمقراطية، ومن المهم أيضا تشجيع الأحزاب المتباينة فى رؤاها على الحوار والدخول فى تكتلات انتخابية، لأن ذلك سيقلل من هوة الخلاف، وسيرسخ بينها مبدأ قبول الآخر.
وعلينا أن نتفهم حماس الشباب لا أن نحاربهم، أن نأخذ بأيديهم نحو المشاركة فى صنع مستقبل البلاد لا أن نحاول إقصاءهم عن الساحة، فهم من دعوا هذا الشعب العظيم إلى الثورة، وكانوا فى مقدمة الصفوف، ولو فشلت الثورة لكانوا الآن فى غياهب السجون.
وأخيرًا، فإنه بغض النظر عن اختلافنا مع المجلس العسكرى، علينا أن ندرك أهمية دور القوات المسلحة فى حماية كيان الدولة، وعلى القوى السياسية والائتلافات الشبابية أن تتحاور معه دون كلل من أجل التأثير فى قراراته لتخرج معبرة عن "مصر بعد 25 يناير"، وعلينا فى الوقت ذاته نبذ خلافاتنا والاستعداد للانتخابات وبناء برلمان قوى، لأن هذا هو ما سيكفل إنهاء تلك الفترة الانتقالية بسلام وبسرعة، حتى يعود الجيش إلى ثكناته لممارسة دوره الأساسى فى حماية حدود الدولة، وحتى يتم تسليم الحكم إلى سلطة مدنية منتخبة تقود البلاد وتحقق أهداف الثورة.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
نورا
مقال رائع وعميق
عدد الردود 0
بواسطة:
وليد
الخفلفية العسكرية
عدد الردود 0
بواسطة:
معتز
نفس التعليق رقم 1
أنا مع التعليق رقم واحد
عدد الردود 0
بواسطة:
محمود من الإمارات
مصر ستتقدم
عدد الردود 0
بواسطة:
كريم
تحليل موضوعي وأسلوب راق
عدد الردود 0
بواسطة:
حمدى
رائع ما سطرت