إن كنت من رواد ميدان التحرير طيلة أيام الثورة، فحتماً شاهدت تلك السيدة العجوز التى تجلس أمام محل هارديز ترتدى جلباباً أسود اللون تمسك فى يدها اليمنى صورة لابنها الشهيد، وفى الأخرى مسبحة تذكر بها الله، إن نظرت إليها حتما ستبكى ليس للحكايات والقصص الإنسانية التى تربطها بفلذة كبدها، لكن للعبارة التى قالتها فى ميكروفون إذاعة الثورة « أنا أم شهيد ومش همشى من الميدان إلا لما آخد تار ابنى ولو عندى اتنين تانيين كنت جبتهم التحرير».
تلك العبارة ظلت فى عقلى وفكرت جيدا فيما تحمله من دلالات عن أم تعيش دون نجلها الوحيد الذى ظلت ترعاه صغيرا وكبيرا وتحلم بأن تختار له زوجته وتفرح بأحفاده.
توقعت أن فرحة الأم ستكون من فرحة ابنها فى قبره، حينما يتحقق الهدف الذى خرج للتظاهر من أجله وهو إسقاط النظام، فعندما سقط النظام تماما وأعلن الرئيس مبارك التنحى، اقتربت من مكان إقامتها فى الميدان وفى ذهنى أن دمعتها ستتحول لابتسامة مشرقة على وجهها، لكننى وجدتها صامته لا تبكى ولا تفرح وبدون أى مشاعر..فسألت عن السبب، لماذا لا تفرح والشعب كله يردد عبارة «الشعب خلاص أسقط النظام» والأعلام ترفرف يمينا ويسارا والأغانى الوطنية ترج أركان الميدان، لكن دون أى إجابة.
ازددت تعلقا بالأم العجوز، ولم أستطع تركها فابتعدت عنها قليلا وظللت أراقب تحركاتها وتصرفاتها عن بعد.. ظلت كما هى صامتة ساكنة فى مكانها، وترفض أى محاولة من المحيطين بها لإشراكها فى الفرحة معهم، حتى جاء أحد الشباب يردد بصوت عالٍ، الجيش أدى التحية العسكرية للشهداء.. الجيش أدى التحية العسكرية للشهداء.. فجأة انتفضت من مكانها «تزغرد» وتردد «ابن دمى ما رحش هدر.. ابن دمى ما رحش هدر».
تحركت السيدة العجوز إلى محيط الميدان وهى تردد الهتاف «يا شهيد نام وارتاح إحنا كملنا الكفاح».. عيناها لم تكفا عن البكاء والدموع، لكن الدموع تلك المرة ليست دموع الحزن على نجلها الشهيد إنما دموع النصر والافتخار والاعتزاز به.. فتحيةً وألف سلامٍ على أرواح الشهداء.
محمود سعدالدين
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة