مواقف إنسانية مؤثرة امتلأت بها جولة اليوم السابع داخل الحدود الليبية عبر المدن المحررة، بسقوط مئات من الشهداء والجرحى ليعيدوا إلى الذاكرة مآسى ومذابح نجح نظام الرئيس الليبى فى إخفائها لسنوات طويلة عن عيون العالم، الذى كان يغمض عينيه عمداً أحيانا للحفاظ على مصالحه النفطية مع دولة العقيد، ليتمرد عليه شعبه قائلا "لا قذافى بعد اليوم".
بعد مغادرتنا مدينة طبرق، مررنا بمدينة الشحات التى حملت قصصاً مشرفة للمصريين على أرض ليبيا بشهادة أهل البلد أنفسهم.
قال لى السائق بكر الليبى، إن ثلاثة مصريين استشهدوا أثناء الثورة، وأول من فتح مخازن السلاح الخاصة بكتيبة "الجارح" العسكرية فى مدينة الشحات كان مصرياً، وأكد "والله مصرى" ثم أضاف، الأهالى أصروا على دفن المصريين هنا فى المدينة، وشدد "دا شرف وعزة لليبيا" ثم أشار إلى مكان وقال هذا مطار البريقة، حيث كانت تهبط طائرات المرتزقة الأفارقة، ونجح الثوار فى محاصرتهم وأسر 40 منهم.
والجارح هو لقب قائد كتائب بجيش القذافى، ومعروف عنه ولائه للقذافى لعلاقة النسب التى تربط بينهم، كونه عم زوجة القذافى الثانية صفية فركاش، والدة سيف الإسلام وأشقائه، وتردد أن الجارح هرب بعد الثورة إلى إحدى القبائل لحمايته من فتك الناس به.
قطعنا 120 كيلومتراً لنصل من الشحات إلى البيضاء المدينة التى انطلقت منها أولى موجات الغضب بشعبية الجبل الأخضر بعد مقتل اثنين من الشباب يوم 16 فبراير، حيث خرج الثوار من كل مكان بالمدينة فى اتجاه مديرية الأمن والأمن الداخلى فى مظاهرة سلمية، قابلها النظام بالرصاص الحى والغاز المسيل للدموع، إلى أن انتصرت إرادة الثوار بالضغط المستمر على قوات الأمن وسيطرتها على الوضع.
اكتست الجدران بعبارات تهاجم القذافى وتصفه بالطاغية، وأخرى تقول: "لا للتخريب لا للعنف لا للفساد لا للقبلية"، ولاحظنا وجود الكثير من المتطوعين للمساعدة فى إعادة الأمن والبناء، فى حين أكد مدير الأمن الحالى للمدينة مصطفى مفتاح (55 سنة) أنه لم يعد لديه الآن سوى ثلث القوات الأمنية، حيث هرب منها الكثير خوفاً من انتقام الثوار، وأعرب عن تخوفه من عدم تسليم الأهالى للأسلحة المسروقة.
التقينا عدداً من الثوار والمتطوعين، الذين اعترفوا أن لديهم حماساً يتجاوز نقص خبرتهم فى إدارة البلاد التى يشعرون بالفخر لإدارتها بأنفسهم.
ومن هؤلاء الثوار أحمد بو غرارة (31 سنة) داخل سيارته الجيب الضخمة، وجدنا بندقية قال إنها تسمى "روسى 45" ومعها شريط ذخيرة حية، وعندما ظهر علينا الاضطراب، سارع إلى طمأنتنا قائلا: "هذا أمان .. كل شىء أمان هنا أنتم فى ضيافتنا وإحنا شاكرين حضوركم"، بعدها اصطحبنا إلى مقر عمله بإحدى المجالس الشعبية وتحدثنا طويلا عن الفساد الذى استشرى بالشعب الليبى على مدار 42 عاماً من حكم القذافى.
وقال بوغرارة، إن كتائب القذافى من المرتزقة كانوا يرتدون الزى الأزرق الخاص بقوات الدعم، المعروف عنها عدم استخدام العنف إلا أنها فاجأت المتظاهرين بإطلاق الرصاص الحى عليهم، بأوامر من على سعد المجعب رئيس الأمن الداخلى "أمن الدولة"، وقتلت وأصابت العشرات، مما أثار الأهالى وخرجوا فى اتجاه مديرية الأمن والأمن الداخلى، وسيطروا عليهما بعد مواجهات عنيفة مع الأجهزة الأمنية التى لاذت بالفرار.
وأضاف: "نحن الآن فى مرحلة بناء ليبيا موحدة بلا قبلية"، مضيفاً، عشنا سنوات بدون قانون أو دستور أو أحزاب، ولم يكن أمامنا إلا الكتاب الأسود للقذافى يقصد الكتاب الأخضر.
بعد الثورة شكلنا لجان أهلية وليست شعبية ولا ثورية، لأننا نرفض هذه التسميات التى تنتنمى لنظام القذافى الذى خدع الناس بمقولة الحكم للشعب، فى حين أن كل شىء يتم بالوساطة والمحسوبية والولاء لنظام القذافى، مؤكداً لم يكن يجرؤ لا الجارح ولا المجعب على نقل كوب ماء بدون أمر القذافى فى صورة شبيهة بما لديكم فى مصر، مثل العادلى وعز الذين، تتم محاكمتهما هذه الأيام.
وقال شقيقه طارق: "ندير المدينة من خلال مجلس محلى يتبع المجلس الوطنى برئاسة المستشار مصطفى عبد الجليل، وزير العدل السابق من أبناء البيضاء، والذى يحظى بثقة واحترام الجميع بكافة المناطق المحررة".
وأكد طارق: "إننا فى فترة انتقالية ومتوقع يكون فيه فوضى، وقبل ذلك كان عندنا فوضى، ولكن منظمة"، لافتاً إلى فساد عانت منه ليبيا فى ظل سيطرة زوجة القذافى الثانية صفية فركوش، التى ولدت فى البيضاء لعائلة كبيرة بقبيلة البراعصه، وعمها الجارح أحد أبرز قادة كتائب القذافى.
بعدها توجهنا إلى عدد من اللجان المدنية منها لجان للإعانات العاجلة، وتوزيع مخزون السلع الأساسية، ولجان للمرور والإعلام والأمن، ومنها لجان لاستقبال المتطوعين للانضمام إلى الثوار فى راس لانوف، والزاوية، وصل عددهم بأحد الكشوف إلى 750 متطوعاً، وخلفهم تم تعليق صور لشهداء قالوا إنهم لقوا حتفهم على يد نظام القذافى، أبرزها مذبحة سجن بوسليم فى طرابلس، التى راح ضحيتها 1200 قتيل، واحتفاظهم بمقطع فيديو يظهر القذافى فى أحد خطاباته كأنه كلب ينبح.
وقال "عثمان سليمه" (42 سنة- عامل باليومية): "لم نعد نصبر.. ماذا فعل بنا الصبر أتى لنا بنظام من العصابات واللصوص"، وأشار سليمه إلى ورقة علقها على صدره، تقول: "نحن لا نستسلم.. ننتصر أو نموت"، وهى إحدى العبارات الشهيرة التى قالها شيخ المجاهدين عمر المختار للمستعمرين.
وفجأة جاء صوت مضطرب من أحد المتطوعين، يقول: "فيه خبر أن القذافى سيطر على طبرق"، ويرد عليه وليد ابراهيم، الذى كان يسجل أسماء المتطوعين: "هذه إشاعة أغلق تليفونك وشاهد هذه القناة (الجزيرة)"، وأضاف: "هذه حرب من الأكاذيب".
والتقينا العقيد مصطفى مفتاح، مساعد مدير أمن المدينة السابق ورئيس اللجنة الأمنية، داخل مبنى للضرائب المالية بالمدينة تحول إلى مقر للأمن، وقال: "الفوضى أمر طبيعى بعد أى ثورة"، لافتاً إلى اقتحام سجن المدينة وهروب ما يقرب من 700 سجين، وقال إن إعادتهم تتطلب ما يقرب من 6 أشهر حتى تعود السلطة، ويتم تسليم الأسلحة التى بحوزة الأهالى، وقال: "أشعر بقلق"، مستطرداً: "إلا أننى أثق فى الأهالى".
لا تزال المدارس والجامعات مغلقة، رغم مظاهر الحياة الطبيعية بالبيضاء، إلا أن حالة ترقب تسود المدينة بسبب التخوف من الخارجين على القانون، ومن بحوزتهم أسلحة لم يقوموا بتسليمها إلى الآن.
وبرصد سريع لكيفية ممارسة الليبيين لحياتهم اليومية فى مدينة البيضاء، تجد مزيجاً من الخوف والأمل فى انتظار ما ستسفر عنه الأحداث فى الأيام القادمة، خاصة مع انتظار معارك طاحنة يخوضها الثوار ضد كتائب القذافى فى الزاوية وراس لانوف وسرت، أملاً فى الوصول إلى إسقاط العاصمة طرابلس، ومن ثم هدم المعبد على القذافى.
فى الحلقة القادمة، اليوم السابع مع ثوار درنه الإمارة الإسلامية المزعومة فى شرق ليبيا
بالصور.."اليوم السابع" فى مدينة "البيضاء" الليبية صاحبة الشرارة الأولى لثورة 17 فبراير.. وقصة الشهيد المصرى الذى فتح مخازن السلاح للثوار
الثلاثاء، 15 مارس 2011 08:28 م
رصاص مضاد للطائرات تستخدمه قبائل القذافى ضد المتظاهرين