جمال دربك

مصريون "بدون"

الخميس، 31 مارس 2011 02:42 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
حاولتُ كثيرا أن أؤطر صورة ذهنية للوطن ففشلتُ.. وحاولتُ اصطياد لقطة لمصر وهى تدور فى ذاكرتى فعجزتُ، ولم أستطع حتى الآن أن أفهم، من أى مكان فى كيان الإنسان ينبع حب الوطن والانتماء إليه.
شغلتنى تلك المسألة كثيرا منذ أن خرجت من مصر، ورأيت كيف ينام المصريون فى الخارج ويقومون، وكيف يأكلون ويشربون، وهم يفكرون فى الوطن، ولا تغفل عيونهم عنه.
واكتشفت أيضا أن مشاعر الوطنية والانتماء تتبدل فى كثير من الأحيان عند المصريين فى الخارج، من إحساس البنوة باعتبار مصر هى الأم، إلى الأبوة عندما يرونها تنحرف بفعل الفاسدين. ولكن العجيب، أن تتحول تلك الأبوة فى الشدائد إلى أمومة، فيصبح المواطن، وفى حالة نادرة ومدهشة، إلى أم لوطنه .
ففى الغربة تجد الرجل خشنا غليظا، ولكن تدمع عيناه كطفل وهو يسمع أغنية وطنية، وتجده قلقا مشغول الخاطر إذا أصيبت مصر حتى بالزكام.. وفى أحداث الثورة، رأيت رجالا يفترشون أرضيات غرفهم تضامنا مع المعتصمين فى الميدان، ورجالا يرابطون أمام شاشات الفضائيات التى تنقل بثا مباشرا من التحرير، وينامون على صورة الميدان، ليستيقظوا بين الفينة والأخرى يطمئنون على الشباب هناك، ورأيت رجالا يستيقظون مفزوعين بالكوابيس، ويصيحون أن هجوما يتعرض له الميدان، فينتفض ليطارد الفضائيات ونشرات الأخبار، خوفا على الشباب أن يكون قد مسهم سوء أو تعرضوا لخطر.
تلك المشاعر ليست بنوة بين مواطن ووطنه الأم، ولا أبوة بينه وبين بلده، ولكنها مشاعر أمومة بكل ما يحمله المعنى، ولكن هذه المرة، هى أمومة مواطن تجاه وطنه، لأن الأمومة هى المشاعر الوحيدة التى تحب دون غرض، والتى تقابل حتى الإساءة بالعطف والتسامح. وهو بالضبط ما يشعر به كثير من المصريين المغتربين فى بلاد غربتهم تجاه مصر.
وإذا تخففنا من تلك المشاعر قليلا، لرأينا الواقع يقول أن مصر وطن لم يعط لأبنائه هؤلاء أى شيء، ورغم ذلك هم يقابلون هذا الجحود بالتسامح والحب واللهفة، فقد تركوا بلادهم لأنهم ببساطة إما حرموا فيها أو اضطهدوا أو ضيق عليهم بفساد أو ببطش أو بقلة رزق أو بسوء توزيع.. وتركوا نصيبهم فى الخدمات، بينما يدفعون رسومها.. ويُحسَبون ضمن أهم موارد مصر ودخلها القومي، بينما يستنزفون بالكثير من الرسوم والضرائب والجمارك وتصاريح العمل، التى لم أفهم حتى الآن فلسفتها، وفوق كل ذلك، لا يحصلون على أى خدمة كريمة فى سفارات بلدهم بالخارج، ولا يجدون نظاما يحميهم، ولا مسؤولا يدافع عنهم، بل أنهم عند وقوع أزمات كالتى وقعت فى ليبيا مؤخرا، وفى العراق وغيرها سابقا، يفاجأون بالمسئولين والكتاب والاقتصاديين يتحدثون عن الأزمة التى ستواجهها مصر بعودتهم، والضغوط التى سيتحملها اقتصاد وطنهم برجوعهم، والأزمات التى سيواجهها الشعب بهؤلاء الثقلاء الذين سيرجعون، وكأنهم غير مرغوب فى عودتهم، أو أن عليهم أن يبقوا خارج البلاد للأبد.
وفى سياق شبيه، نرى فى كثير من الأدبيات والأعمال الدرامية ما يدعو المغتربين إلى العودة باعتبارهم مفرطين فى خدمة وطنهم، وتصورهم على أنهم مجموعة من الماديين وجامعى المال، وكأنهم وجدوا حياة كريمة فى وطنهم ورفضوها، وأنهم اختاروا الغربة على جنة بلادهم التى هيأتها لهم، على الرغم من أن الجميع يعلم عمق تزييف هذا الطرح، ومدى التدليس فيه، لأن الجميع أيضا يعلم أن لسان حال الكثير من المغتربين يقول: "إنك لأحب أرض الله إلى قلبي.. ولولا أهلك أخرجونى ما خرجت".
بضع ملايين من المصريين، قد يصلون إلى عُشر تعداد السكان أو يزيد، خارج البلاد، يتابعون أنفاس مصر فى الشهيق والزفير، ويراقبون همساتها ولفتاتها، يتألمون معها، ويفرحون لها، يعيشون فيها بأرواحهم رغم غربة الأجساد، وتعيش فيهم بشحمها ولحمها وشوارعها وحواريها وحرها وبردها.. مستعدون لبذل الروح فداء لها، ولكنهم فى المقابل ممنوعون من أن يكونوا مواطنين حتى يعودوا، وإذا عادوا فإما هم هدف للابتزاز والاستغلال المادى بكل أنواعه وبدون وجه حق، أو أنهم غير مرغوب فيهم حفاظا على اقتصاد مصر وراحة أهلها. فمصر لازالت تتعامل مع المغتربين عنها وكأنهم "بدون"، كهؤلاء فاقدى الجنسية الذين نعرفهم فى عدد من الدول، فلا يحق لهم التصويت ولا الانتخاب ولا المشاركة السياسية كمواطن من رعاياها، ولا حق لهم كمواطنين فى أن يلجأوا لسفاراتهم فتحميهم أو تخدمهم، ولا أن تحترمهم وتصون كرامتهم. ولذلك يتحول المصرى فى الخارج إلى أشبه باللاجئ الذى بلا هوية وبلا وطن ولا دولة يشعر بظلها أو رعايتها له. فهل ستتغير تلك الصورة بعد الثورة، أم أن الثورة ذاتها ستستثنيهم أيضا من إصلاحاتها، وستتعامل معهم ككل الأنظمة السابقة على أنهم "بدون"؟
فهل خطر ببال وزير الخارجية فى عهد الثورة أن يوجه موظفيه وقناصله والسفراء بالخارج أن يغيروا أساليب عملهم مع المصريين كمواطنين من رعايا الدولة؟ أم ستبقى نفس العقلية النتنة التى تعتبر المواطن مجرد متسول أو صاحب حاجة، كما تعتبر المواطن المصرى بالخارج مجرد لاجئ، عليه أن يقبل بما يقدموه أو يذهب إلى الجحيم، حيث لن يستمع إليه أحد فى سفارته أو داخل وطنه، لأن دبلوماسيى مصر فى الخارج فى عهد النظام الساقط، كانوا مجرد موظفى علاقات عامة وصلوا لمناصبهم بالمحسوبية، يعنيهم فقط رضا الدول التى هم فيها، من أجل الحفاظ على علاقات النظام مع هؤلاء، وعدم إقلاقهم حتى لو على حساب مواطنيهم.
وهل فكر القائمون على شئون البلاد ومن سيتولى تغيير دستورها، أن لهذا الوطن رعايا خارجه، يجب أن نسمح لهم بالمشاركة فى قراراته واستفتاءاته وانتخاباته، كما يشاركون فى بنائه؟ أم أنهم فقط يُدعَون للحرب ولا يُدعَون للمجالسة؟
هل آن الأوان لمصر أن تساوى بين أبنائها، ولا تستثنى الملايين منهم ممن اضطرتهم هى للسفر، ليشعر الجميع فعلا بمذاق البنوة لوطن أرضعوه الحب والانتماء، بدلا من أن يشعروا هم بأمومته، وباتوا الآن يتشوقون لإحساس واحد لم يتذوقوه من قبل.. وهو إحساس المواطنة.
* صحفى مصرى يعمل بجريدة المدينة السعودية






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة