خيرى شلبى

رجل فى سياق النغم

السبت، 18 يونيو 2011 04:04 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كنت أصعد سلم مبنى الإذاعة القديم فى شارع الشريفين، فشعرت بكيان مهيب عملاق ينسدل إشعاعه القوى على درج السلم فيما هو نازل إلى الطابق الأرضى، صورته المألوفة فى الصحف أكدت لى أنه الشاعر محمود حسن إسماعيل الذى أعتبر نفسى من دراويشه، تسمرت فى مكانى لا أدرى ماذا أفعل، فلما واجهنى رأيت فى عينيه النخيل ينصت إلى مقالة الريح على شاطئ النهر الخالد، ابتسم ابتسامة جهمة كملامحه لكنها أبهجتنى، ثم انسابت فى صورة شخللة الموسيقى موشية صوت الكمنجات فى اللزمة الموسيقية التى تزف مقالة الريح للنخيل فى لحن الموسيقار محمد عبدالوهاب حالة من صوت بالغ الحنو والدفء، إذ يقول وهو يحملق فى وجهى مبتسماً عن أسنان كبيرة مصبوغة بلون القمح تفوح منها نكهة التبغ والقهوة:
متسول أم قاطع طريق؟!
- أتسول الرضا!
فسحب يده عن خشب الدرابزين ومدها لمصافحتى بترحيب ينبض خجلاً:
- أهلاً بك! شرفنى باسمك أيها الفتى!
قلتلك أنا فلان الفلانى، صحفى بمجلة المسرح، وأمنيتى أن أجرى حواراً مع حضرتك بمناسبة صدور ديوانك الجديد «قاب قوسين». قال بأريحية: لا بأس، اترك لى الأسئلة فى مكتبى، وسوف أقرأها وأحدد لك ميعادا، ثم صافحنى مرة أخرى ومضى، وكنت أعلم أنه يشغل منصباً مرموقاً فى الإذاعة، أظنه كان مديراً للبرامج أو للتنفيذ أو لشىء من هذا القبيل، وقد عكفت على قراءة كل دواوينه واستطعت استخلاص مجموعة من الأسئلة عن أشياء كثيرة، الصعيد فى شعره، مدرسة أبوللو الشعرية التى ينتمى إليها، قضية فلسطين، ثورة يوليو، شعراء التفعيلة، أسباب هجوم العقاد والمازنى على أمير الشعراء أحمد شوقى.. إلخ. ثم ذهبت لأترك له الأسئلة فى مكتبه، ولحسن الحظ كان المصعد الكهربائى العتيق شغالاً ففضلت الصعود فيه فإذا بى ألتقيه على بابه فركبنا معاً ثم تبعته إلى مكتبه فأمر لى بالقهوة، وأخذ ورقة الأسئلة ثم طواها ودسها فى جيب سترته، قلت: ألا تراجعها بالمرة وأنا موجود؟ قال بابتسامته الخجولة: لا يصح أن أستخدم مكتب الدولة ووقت العمل فى إجراء حوار شخصى، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لن يتيح لنا وقت العمل ومكانه فرصة للتركيز، وعلى كل حال ممكن أن أراك يوم الخميس القادم الساعة السابعة مساء فى مقهى سان سوس بالجيزة وقد أثبتت الدقائق التى مكثتها معه أنه كان محقاً تماماً: رن الهاتف عديدا من المرات ورد عليه، ودخل عديد من السعاة بأوراق وخرجوا بها ممهورة بتوقيعه وتأشيراته.

وكنت أظنه - باعتباره ذلك الشاعر الشارد باستمرار فى ملكوته وعالمه - ليس يتقن العمل الإدارى فإذا بى أكتشف أنه «إدارجى» من أرقى طراز, كل شىء فى مكتبه فى أتم انضباط وأتم هدوء، فكأن مكتبه مفتوح على الأثير كميكروفون الإذاعة حيث كل برهة من الزمان لابد أن تكون ممتلئة بمادة عملية تماماً لها كالمقطوعة الموسيقية لا يخلو سياقها الزمنى من نغم فى السياق الموضوعى حتى هنيهات الصمت تكون محسوبة ضمن السياق الموضوعى، لها وظيفة حيث الصمت فى كثير من الأحيان جزء من النغم، وكان محمود حسن إسماعيل حاسماً فى قراراته بمنتهى الدقة والحزم والحكمة.

حدث ذات يوم أن أحد كبار المذيعين، أظنه المذيع أحمد حمزة دخل استوديو البث ليقرأ نشرة الأخبار فلم يجد كرسياً يجلس عليه، وكان قد بقى أمامه من الوقت عشر دقائق، فبسرعة كتب مذكرة بما اعتبره كارثة، وطلب الدخول إلى محمود حسن إسماعيل ليطلعه شخصياً على هذا الأمر العاجل، قرأ محمود حسن إسماعيل المذكرة، ثم نظر فى ساعته فوجد أن موعد إذاعة النشرة يحين بعد ثلاث دقائق، فسحب القلم الأحمر، وكتب على صدر المذكرة تأشيرة تقول: يؤدى المذيع عمله واقفاً!








مشاركة

التعليقات 1

عدد الردود 0

بواسطة:

حسن عبد اللطيف

نسيم من الزمن الجميل

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة