خيرى شلبى

الكتابة بالإبرة السنيورة!

السبت، 02 يوليو 2011 05:07 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
وأنا تلميذ فى الشهادة الابتدائية حوالى عام 1950 كنت فى نفس الوقت أتعلم الخياطة فى دكان المعلم فرحات البربرى، أشهر وأمهر الخياطين فى بلدتنا آنذاك، وكان التحاقى بهذه المهنة اقتداء بحكمة شائعة يؤمن بها أهل بلدتنا تقول: «صنعة فى اليد أمان من الفقر»، حبى للمهنة جعلنى أستوعبها بسرعة، من تركيب الزراير إلى نسج العراوى إلى «التتبيت» على المكنة، ولكن المهنة التى أرهقتنى وعانيت الأمرين فى محاولة إتقانها هى عملية تركيب الأقطان فى فتحة صدر الجلباب وتقويرة الطوق، عامة الزبائن تطلب فردة قطان واحدة، والموسرون يطلبون «جوز قطان»، أما العباءات فأقطانها كثيفة فى أماكن كثيرة فيها وتلك مهمة موكولة بأكملها إلى الصنايعى المتودك الأسطى محمد شرف، كنت أتربع لصقه لأناوله ما يحتاجه من أدوات، وأراقب حركة الإبرة بين إصبعيه، وهى تخترق نسيج فردة القطان وتغادرها بسرعة ورشاقة، مخلفة وراءها خيطا دقيقا من غرز لا تكاد تُرى بالعين المجردة.
فردة القطان مضلعة، ذات أربعة أضلاع رغم أنها رفيعة كسلك الكهرباء أو أتخن قليلاً، ولابد للصنايعى أن يكون قوى البصر لكى يميز بين الأضلاع لابد أن يتربع واضعا ساقه اليمنى فوق فخذه اليسرى، وثمة شريحة من قماش سميك لها عروة يشبكها فى إبهام قدمه اليمنى، ويمرر الشريحة من تحت الساق إلى فوقها، حيث تنتهى بمشبك كالسنارة يشبكه فى طوق الجلباب، وبيده اليسرى يمسك طوق الجلباب والقطان معاً، فى أصابعه حساسة مرهفة تجاه الأضلاع الخفية لفردة القطان، حيث ينسرب من بينها لينضوى تحت طائلة الغرزة وبأصابع يمناه يمسك الإبرة الدقيقة المسماة بالسنيورة، وهى فى حجم دبوس الورق لابد أن تدخل الإبرة فى الضلع، الذى التزمت به من أول غرزة، فإن حدث أدنى اختلال فى الأصابع الممسكة بالقطان أو الممسكة بالإبرة حادت الإبرة عن المجرى، فإن هى إلا غرزة تالية حتى يلتوى القطان ويبرم، وما لم يكن الصنايعى على درجة عالية من الدربة مع سلامة البصر ودقة الحركة فإنه قد لا يلحظ أن القطان قد برم وصار منظره شائها.
وما لم يلحظه مبكراً فإن فك الغرز يحتاج صنعة وإلا ترهل نسيج القطان وفقد صلاحيته، وهو حرير غالى الثمن، وبهذا فإن المعلم فرحات الجالس خلف منصة التفصيل منشغل بتركيز فى القياس والقص وتقوير وتحريد، لا ينى من حين لآخر يرسل نظرة خفية إلى الصنايعى المتربع قرب باب الدكان، فيعرف على البعد إن كان القطان قد بُرم فى يد الصنايعى أم أنه يمضى مستقيماً ويا ويل الصنايعى إذا كان القطان قد بُرم.
هذه العملية أضنت بصرى الكليل وأقنعتنى أننى لن أحقق فيها قدراً من الدربة والإتقان، فهربت منها ومن المهنة كلها فى وقت مبكر سيما وقد رحلت إلى المدينة سعياً وراء التعليم إلا أن تلك العملية - عملية تركيب القطان - بقيت كامنة فى اللاوعى منى، إلى أن ظهرت فى الوعى منذ بدأت أحترف الكتابة الأدبية.
أطلت بقامتها كتجربة عملية ذات خبرات يمكن استعارتها وتطبيقها بحذافيرها على تجربة عملية أخرى ومختلفة هى تجربة الكتابة، لقد وعيتها حينما لاحظت فى تجاربى الكتابية الأولى أن «مجرى الغرزة» يهرب من السياق الموضوعى، حيث يستجيب القلم للتداعيات وما تحمله من فرص للتوهج، وإذ يخفت الوهج أستدرك عائدا إلى بؤرة الموضوع، الذى قصدته بالكتابة فأفاجأ فى النهاية بأن كثرة الاستطرادات الفرعية قد لوت السياق، وأن خيط الموضوع قد بُرم، عندئذ أسارع بتمزيق الورق والشروع فى الكتابة من جديد بأكبر تركيز ممكن على الإمساك بالضلع، الذى تدخل فيه الإبرة، بخيط الموضوع كل مفردة بمثابة غرزة جديدة فى السياق مربوطة فيه بدقة وإحكام.
ولعله من الطريف أن أرانى الآن رغم كل هاتيك التجارب فى الكتابة لا أزال إلى اليوم كلما جلست للكتابة تحضر فى ذهنى عملية تركيب الأقطنة، فأظل طوال الكتابة أتوجس خيفة من صفعة مفاجئة على مؤخرة الرأس من يد المعلم فرحات لاكتشافه على البعد أن القطان قد التوى فى يدى وبُرم!








مشاركة

التعليقات 2

عدد الردود 0

بواسطة:

شعبان العدوى المحامى

أنت جميل

عدد الردود 0

بواسطة:

مصري قومي عربي مسلم

مبدع000 متواضع000صادق 000عظيم

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة