عام 1990 اشتريت سيارة وقع لها حادث كبير أدى لانقلابها عدة مرات على طريق القاهرة- الإسكندرية الصحراوى، لم أكن أعرف هذا العيب قبل الشراء وظللت أقوم بإصلاحها مرارا وتكرارا دون جدوى، وبعد عناء ساقتنى الصدفة إلى ميكانيكى خبير فى "إمبابة" نظر للسيارة واستمع إلى ملاحظاتى عليها، ثم قال بلهجة الواثق: "الشاسيه معوج.. ولا حل إلا بتغيير السيارة أو تغيير الشاسيه"، ولأننى كنت غير قادر على استبدال السيارة، فقد اضطررت لتغيير الشاسيه، لأن نصيحة الميكانيكى "الفاهم" أنه مهما تم من إصلاح فإن العيب سيظل موجودا طالما الشاسية معوج، إصلاح الشاسيه وضبط الموتور و"العفشة" أعاد السيارة كأنها جديدة تماما.
المحليات- فى تقديرى- هى "شاسيه الدولة" الذى يشبه "شاسيه" سيارتى القديمة، وقد كتبت أكثر من مرة حول أهمية تغيير قانون الإدارة المحلية رقم 124 لسنة 1960 وتعديلاته، وقلت إن هذا القانون المشئوم والقوانين المكملة له مسئولة عن عدم شعور المواطن بجهود التنمية التى حاولت الحكومات المتعاقبة أن تحققها، دون جدوى، تماما مثل جهودى فى إصلاح سيارتى القديمة.
ما شجعنى على الكتابة مجددا هذه المرة أن وزير التنمية المحلية الجديد المستشار محمد عطية كشف النقاب مؤخرا عن اعتزامه تشكيل لجنة لتعديل قانون الإدارة المحلية عقب عيد الفطر المبارك، ورغم أن تصريح المستشار عطية جاء مقتضبا للغاية، ولم يوضح كيفية تشكيل تلك اللجنة، ومن أعضاؤها، وما صلاحيات ومسئوليات تلك اللجنة، وغيرها من الأسئلة المشروعة فى هذا المجال، لكن الأهم بالنسبة لى أن "شاسيه التنمية المعوج" وجد أخيرا مسئولا تنفيذيا يكتشف عيبه ويشير إليه ويقول: هنا مكمن العيب والخطأ والخطورة، ومن هنا يجب أن يبدأ الإصلاح.
والحكاية من البداية وباختصار شديد، فإن قانون الإدارة المحلية منذ صدوره عام 1960 يتميز بتوجهه الصريح نحو المركزية سواء فى القرارات أو الاستثمارات أو الخدمات الأساسية.
وقبل صدور هذا القانون كانت مصر مقسمة إداريا إلى مديريات وبلديات حيث كان "مدير البلدية"- رئيس المدينة حاليا- مسئولا أمام "مدير المديرية"، أو المحافظ عن شئون العمران من مياه وصرف صحى ونظافة وحدائق وتنظيم وتخطيط وتراخيص وكهرباء ورصف طرق وغيرها.
وقد قدمت هذه المجالس مدنا ذات شوارع عريضة تحفها صفوف الأشجار، وميادين واسعة تتوسطها التماثيل والنافورات، ومبان ذات طرز معمارية مختلفة، من بين تلك المدن طنطا والزقازيق والمنصورة ودمنهور وبنى سويف وأسيوط وغيرها.
وكانت شبكات المياه والصرف الصحى والكهرباء تعمل بكفاءة، كما كانت هذه المجالس تنفذ خطوط التنظيم وتتابع تراخيص المبانى بكل دقة بعيدا عن الرشوة والمحسوبية واستغلال النفوذ، واستمر الحال على هذا المنوال حتى صدر قانون الإدارة المحلية الذى ألغى نظام المديريات وتكونت بمقتضاه المحافظات، كما نص على أن المحافظ يعد ممثلا لرئيس الجمهورية فى محافظته.
ولم يؤد تفويض صلاحيات رئيس الجمهورية للمحافظين فى تحقيق اللامركزية.. لأن التفويض ليس تفويضا لمؤسسات محلية قوية، وإنما لشخص المحافظ الذى يختاره رئيس الجمهورية وهو القادر وحده على إقالته وتغييره، وفى ضوء غياب الرقابة الشعبية على سلطات المحافظين وعدم قدرة المجالس المحلية على إقالة المحافظ فقد تحول نظام الإدارة المحلية إلى "كابوس مزمن" منذ عام 1960 وحتى يومنا هذا، ولم تتحقق التنمية المرجوة أو المنشودة.
من جانب آخر، كشف نظام المحليات عن تداخلات حادة بين السلطات المركزية وسلطات المحليات، وهو ما أدى لوجود "ولاء مزدوج" للعاملين فى المحافظات تجاه الوزارات المركزية لارتباطهم بهذه الوزارات فى أمور تتعلق بالنقل والترقية من ناحية، ومن ناحية أخرى الولاء للمحافظة التى يعملون بها وتقوم بالإشراف اليومى على أعمالهم، وترتب على ذلك عدم وضوح العلاقة بين أجهزة المحليات وأجهزة الإنتاج والـخدمات المركزية والتنظيم السـياسى للدولة (الحزب الوطنى المنحل) علاوة على أن قانون الإدارة المحلـية لم يسـاعد على خلق قيادات وكوادر إدارية محلية تستطيع تحمل عبء إدارة العمل المحلى.
وفى ظل تلك التداخلات المتشابكة توافرت بيئة خصبة لنمو وترعرع الفساد فى المحليات ليقضى على كل شىء، ويحول البلاد إلى غابة من الفاسدين المتصارعين على جثة الدولة التى فقدت هيبتها وأساليب رقابتها، بل وفقدت دورها الرئيسى فى رعاية المواطنين.
وأدت هذه المشاكل-ولا تزال- دورا أساسيا فى تعويق الوصول لإنجازات ملموسة فى التنمية الشاملة، واقترح إن يتم إلغاء القانون 124 لسنة 1960 تماما، وأن تتولى لجنة عامة من كافة أطياف المجتمع من فقهاء الإدارة المحلية والقانونيين والسياسيين والمثقفين وكافة المهتمين، تتولى دراسة عيوب النظام القديم وتقدم مسودة مشروع جديد يتم عرضه للمناقشة المجتمعية قبل أن يتم الدفع به إلى مجلس الوزراء لاتخاذ قرار إصداره وتحويله إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة لإصداره فى صورة مرسوم بقانون.
وأعتقد أن صدور قانون الإدارة المحلية قبيل إجراء الانتخابات البرلمانية فى أكتوبر أو نوفمبر المقبلين سوف يجنب مصر الكثير من المشاكل التى يمكن أن تحدث حال إجراء الانتخابات فى ظل قانون المحليات الحالى، رغم قرارات حل المجالس الشعبية المحلية، وفى هذا تفصيل أكبر فى مقال آخر.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
mohamed
good point