كانت الساعة تقترب من التاسعة مساء الأحد الموافق 2 إبريل الجارى عندما بدأ قطار النوم القادم من أسوان يقترب من دخول محطة مدينة قنا.. وكان وفد الشعراء والمبدعين العرب "راضية الشهيبى، آمنة الرميلى، فاطمة الشريف، عيسى المؤدب من تونس، مصطفى سعيد وسمر علوش من سوريا ومحيى الدين صالح من السودان"، المشاركون فى مهرجان الجنوب الأول للشعر العربى يحملون حقائبهم وأغراضهم استعداداً لركوب القطار والمغادرة.. وقتها برق فى خاطرى أمر مهم على ضفاف اليومين اللذين قضيناهما فى قريتى القلعة ودندرة، حيث مسقط رأس الشاعرين الكبيرين أمير شعراء الرفض أمل دنقل وضمير الربابة والوطن عبد الرحيم منصور، وهو سؤال عن عما حققناه نحن جماعة الهجرة للجنوب و24 ساعة شعر التونسية - أصحاب فكرة تنظيم وإقامة هذا المهرجان- من نتائج مفيدة ومهمة.
قلت فى نفسى: رغم كل هذا الإبداع والشعر الذى عاشته قنا وأهل الصعيد على مدار يومين متتالين ما بين قريتى القلعة ودندرة، ورغم بعث الحلم وتحقيقه وتكاملنا فى تواصله.. ورغم إنجاز كل ما تم إنجازه من تأسيس هيكل إبداعى لخدمة البلاد ثقافياً وسياحياً واجتماعياً وجغرافياً وتاريخياً، وتلك هى أهداف جماعة الهجرة إلى الجنوب جماعة وهبت نفسها لأجل أن يكتشف الناس الجنوب على حقيقته وليس كما تنقله لنا أفلام ولا روايات.. إلا أن إعادة اكتشاف وبعث عبد الرحيم منصور من مرقده كان هو النتيجة الأهم فى هذا المهرجان.
نعم لقد كانت ليلة العثور على عبد الرحيم منصور وإعادته إلى مسقط رأسه ليلة لها طعم ومذاق خاص.. فلم نكن نتخيل أن المكان الذى ولد فيه وترعرع وعاش أبوه وأجداده.. يسقطه من ذاكرته، فقد كانت مفاجأة من العيار الثقيل عندما دخلنا قرية دندرة والتف حولنا أفراد من أهل القرية شباب وصبية ونساء.. سألونا: لماذا أنتم هنا؟
قلنا: نحن هنا لأجل الشاعر الكبير عبد الرحيم منصور
قالوا: ومن يكون عبد الرحيم منصور؟
قلنا ونحن فى دهشة مما سمعنا: ألا تعرفون من يكون عبد الرحيم منصور ألا تسمعون للأغانى؟
قالوا: لا نعرفه.. فمن يكون.. أما الأغانى فنحن نسمعها
سألنا: وإلى من تسمعون؟
قالوا: نسمع محمد منير.. نسمع شجر الليمون وشبابيك.. ونسمع شادية نسمع قولى لعين الشمس ماتحماشى.. وراحوا يعددون الأغنيات التى يحبونها ويسمعونها ولكن لم يكن يتخيلوا أنها كلها كانت من تأليف ابن قريتهم عبد الرحيم منصور.
ومثلما هى كانت مفاجأة لنا أن منصور صار غريباً مجهولاً بين أهله وناسه كانت مفاجأة لهم أن شاعراً من قريتهم يتمتع بكل هذه القامة والشهرة والقيمة، وتأتى الناس من بلدان الدنيا لإحياء ذكراه وترديد أغنياته وأشعاره.
وما هى إلا دقائق حتى سرى الخبر فى القرية، حفيد عائلة الخوالى فى دندرة طلع رجل مهم ومشهور يا ولاد الحلال.. ومن عشرات الأفراد وأعداد محدودة كنا قد دخلنا إلى القرية على ألف شخص كانوا يسيرون خلفنا وهم يرددون أغنية عبد الرحيم منصور: كام عام ومواسم عدوا.. وشجر اللمون دبلان على أرضه.. فينك.. بينى وبينك.. أيام وينقضوا.. شجر اللمون دبلان على أرضه.
بدون مبالغة لقد نجح الشعر واستطاع أن يحقق كل هدف سعينا إليه فى هذا المهرجان.. تفرد الفكرة.. بيوت الشعراء وتحويلها إلى مزارات ثقافية وسياحية.. خدمة الثقافة فى إنعاش السياحة وكيف أن معبد دندرة تحول فى لحظة من معبد أثرى ينطق بتراث الفراعنة وعبقريتهم إلى لسان عرب ينطق بلغة الضاد والفنون والإبداع.. كل ذلك تحقق.. ورحم الله أحمد شوقى الذى أنشد قائلاً: وطنى إن شغلت بالخلد عنه.. نازعتنى إليه فى الخلد نفسى.. أو كما قال الجاحظ: وكان النفر فى زمن البرامكة إذا سافر أحدهم أخذ معه من تربة أرضه فى جراب يتداوى به.. ونحن فى هذا المهرجان كنا فى زمن البرامكة عدنا إلى القاهرة وفى إيدينا الدواء.. تونس تكتب عن جذورنا.. وإبداع يحدد ملامحنا.. بل دعوة تقول: وما أجمل السياحة فى بلادنا عندما تكون الثقافة همها.. وإذا أردت أن تعرف أكثر.. أرجوك طالع ما كتبه الصديق المبدع التونسى محمد عيسى المؤدب.
عدد الردود 0
بواسطة:
سيدة احمد على
كلام يجافى الحقيقة