اعد الملف ناصر عراق
نقلاً عن العدد اليومى..
لا يملك المرء إلا الشكر الجزيل يقدمه إليك، أيها القارئ الكريم، للحفاوة التى استقبلت بها (عطر الأحباب) الجمعة الماضى، فقد انهالت الاتصالات، بجميع الوسائل، على «اليوم السابع» تبارك وتهنئ وتشجع، وقد تلقيت اتصالاً من الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى يعرب فيه عن سعادته بعطر الأحباب ويشكر «اليوم السابع» ويهنئ الأستاذ خالد صلاح رئيس التحرير. ونحن إذ نثمن هذه الحفاوة وذاك التشجيع، نعدك بأننا سنبذل أقصى طاقتنا لنتجول فى بستان حدائقنا الفكرية والأدبية والفنية، ونقطف لك أجمل الزهور وأينعها، عسى أن تستعيد مصرنا الحبيبة بهاءها الذى كان، ونضارتها التى كانت!
لا ريب فى أن المعركة الأهم التى تواجهنا فى مصر هى معركة فكرية وثقافية بامتياز، وقد تطول هذه المعركة عشرين عامًا على الأقل، صحيح أننا بصدد معارك سريعة وحيوية فى القريب العاجل من أول الاستفتاء على الدستور وتمريره واختيار رئيس للجمهورية ومجلس نواب، علاوة على توفير حياة آدمية وكريمة لملايين المصريين.. أقول: كل هذا صحيح وضرورى وحتمى، لكن تظل معركتنا مع الجهل والتخلف والتعصب هى أكثر معاركنا شراسة، ذلك لأن حكامنا الأوباش أهملوا الشعب وداسوا على حقه فى تلقى نصيبه من العلم طوال أربعة عقود تقريبًا.
اللافت للأسى أن المصريين كانوا بعد ثورة 1919 وما تلاها، من عقود قليلة لا تتجاوز الخمسة، سائرين فى درب التقدم والحداثة، يغمرهم شعور أصيل بضرورة العمل بجدية حتى نلحق بالعصر الحديث بعد قرون ساد فيها التخلف وانقض الجهل علينا من جراء حكم العثمانيين والمماليك، حتى جاء نابليون وحملته عام 1798 لنكتشف كم نحن جهلاء منقطعى الصلة تماما بالعصر الحديث، وكانت عبارة الشيخ الجبرتى موجعة بقدر ما هى موجزة كاشفة، حين قام بزيارة المجمع العلمى المصرى الذى أسسه نابليون فى حارة الناصرية بالسيدة زينب، ذهب الجبرتى وشاهد بعض التجارب العلمية التى أجراها علماء الحملة الفرنسية، فانتابه الذهول وكتب الآتى بالحرف الواحد (ولهم فيها أمور وأحوال وتراكيب غريبة ينتج منها نتائج لا تسعها عقول أمثالنا)!
لقد بدأت حشرة التخلف تزحف علينا مع مطلع سبعينيات القرن المنصرم!
أما إذا نظرت الآن إلى ملابس المصريين وملامحهم وطريقة كلامهم، رجالاً ونساءً، وكيف تبدلت فى الثلاثين سنة الأخيرة عما قبلها، فستكتشف بيسر كيف كان الناس أكثر سماحة ولطفاً، بينما صاروا الآن أكثر تشددا وعصبية بعد أن ظهر بيننا أصحاب اللحى المخيفة والفتاوى المخبولة والوجوه المخفية تحت السواد، ولك فى أفلام الأبيض والأسود مثال واضح يشرح لك كيف كان المصريون أكثر رقة وتطورًا وحداثة وهم يتعاملون ويتكلمون ويلبسون ويتحدثون!
أجل.. إن (عطر الأحباب) تعى تماماً أن المعركة مع الجهل والتخلف ماضية ومستمرة، ولا مناص من أن ننتصر، وسننتصر حتى يشرق وجه مصر من جديد بعد سنوات عجاف من العتمة والبؤس!
مع آخر يوم من شهر أكتوبر عام 1960 شهد المصريون فى سينما ميامى أولى روايات نجيب محفوظ بعد أن تحولت إلى فيلم حمل الاسم نفسه للرواية (بداية ونهاية)، وقد أقبل الناس على الفيلم بشكل كبير، ليس حبًا فى نجيب محفوظ الذى لم يكن قد حقق شهرة ضخمة عند العامة فى ذلك الوقت، بل بسبب نجمى الفيلم فريد شوقى وعمر الشريف، وربما المخرج صلاح أبوسيف، فى ذلك الوقت كان المصريون يلتفون حول عبدالناصر إثر الشروع فى بناء السد العالى الذى بدأ العمل فيه مطلع 1960، ورغم أن هناك عشرات من الإخوان والشيوعيين «مكومين» خلف قضبان الاعتقال، فإن الشعب المصرى فى مجمله وقف مع الزعيم يناصره ويؤازره حين لمس بنفسه كيف حقق له عبدالناصر أمنيات لم تخطر له على بال.
ترى.. هل نجحت السينما فى إبراز أجمل ما فى روايات صاحب نوبل 1988؟ وهل تمكنت الشاشة البيضاء من تسليط الضوء على ما يحتشد داخل هذه الروايات من أفكار جريئة وآراء مدهشة وخيالات خصيبة؟ أم أنها اكتفت بالتماس مع (الحكاية) من الخارج، فلم يشغل صانعو أفلامه أنفسهم بالغوص فى بحار أعماله الروائية بحثا عن اللآلئ الثمينة والدرر النادرة؟
هيا نستثمر ذكرى ميلاده التى مرّت علينا فى الحادى عشر من ديسمبر الجارى، ونستكمل مشوارنا مع نجيب محفوظ وعالمه السينمائى الشاسع، بعد أن رأيناه يتعامل مع هذا العالم الجميل فى البداية بوصفه كاتب سيناريو، ثم مؤلف قصة خاصة بالسينما كما فات عليك الأسبوع الماضى.
بداية ونهاية
بحفاوة كبيرة يطل اسم نجيب على الشاشة قبل أى اسم آخر منفردًا ومكتوبًا بخط رقعة جميل ومشفوعًا بترجمة فرنسية، إذ ما إن تنطفئ الأنوار داخل قاعة العرض حتى تضاء الشاشة بهذه العبارة (دينار فيلم تقدم.. بداية ونهاية.. قصة نجيب محفوظ)، ثم تلا ذلك أسماء النجوم فريد شوقى فى دور حسن، عمر الشريف فى دور حسنين، كمال حسين فى دور حسين، أمينة رزق فى دور الأم إلى آخره، أما السيناريو فكتبه صلاح عز الدين.
لكن هناك سؤالا يستحق التفكير: لماذا تأخر صلاح أبوسيف فى تحويل روايات صديقه إلى أفلام كل هذا الوقت؟ لقد صدرت (بداية ونهاية) فى عام 1949، ولم تتسلل إلى شاشة السينما إلا بعد 11 سنة، فهل إدانة الرواية بشكل غير مباشر للعهد الملكى هى التى دفعت السينما إلى التغاضى عنها؟ أم أن صعود عبدالناصر ونجمه دفعا السينما إلى تقديم أفلام تدين العهد الذى سبقه؟ على أية حال فى هذا الفيلم استطاع صلاح أبوسيف أن يستعيد أجواء القاهرة فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى بكل رونقها وبؤسها، لكن ضرورات السينما أباحت المحظورات فاختزل المخرج وقائع وأحداثا ذكرت فى الرواية، وبدل مشاهد ونهايات، ومع ذلك يصح القول إن (بداية ونهاية) أقرب الأعمال السينمائية إلى الرواية الأصلية رغم العتامة التى تفرض ظلها على الفيلم من اللقطة الأولى حتى الأخيرة (بيع أثاث البيت حتى انتحار نفيسة) ورغم خفة ظل فريد شوقى وأستاذه فى الغناء حامد مرسى، فإن القتامة تغلغلت واستقرت.
اللص والكلاب
المرة الأولى التى منح فيها نجيب محفوظ لقبا مميزا فى عالم السينما كانت فى مقدمة فيلم (اللص والكلاب)، حيث كتب اسمه بعد أسماء النجوم والممثلين هكذا (عن قصة الكاتب الكبير نجيب محفوظ)، وحسنًا فعل مخرج الفيلم كمال الشيخ حين أضاف (عن قصة) لأنه أقدم على تغييرات كثيرة لم تكن موجودة فى الأصل الروائى، ولأن عالم السينما له شروطه وقوانينه التى تختلف عن مناخات الرواية، الأمر الذى انتبه له المخرج المتميز.
اللافت للانتباه، أن الفيلم عرض للمرة الأولى فى 12 نوفمبر 1962، أى بعد صدور الرواية بعام واحد فقط، وبعد إجراءات التأميم التى اتخذها عبدالناصر قبل ذلك بأكثر من عام، فهل وجد كمال الشيخ بغيته فى هذه الرواية تحديدًا لأنها تناقش قضية الصراع التاريخى بين الأثرياء والفقراء، وهل من حق المحروم أن يسرق الثرى؟ أم أنه أراد أن يفضح أولئك المثقفين الذين يغيرون جلودهم وفقًا لمصالحهم القريبة، وكم مرّ على مصر الكثير من هؤلاء، خاصة فى فترات التحولات الكبيرة؟ وأنت تعلم أن الستينيات شهدت تحولات مدهشة على جميع الأصعدة، على أية حال حقق الفيلم نجاحاً كبيراً، وأذكر أننى سألت كمال الشيخ فى حوار أجريته معه فى بيته بعمارة الأوموبيليا عام 1997 عن كيف يرى أفلامه بعد كل هذه السنوات، فذكر لى أنه يكن محبة خاصة لهذا الفيلم تحديدًا.
نجيب المعالج
لا أحد يملك تفسيرا مقنعا لعودة نجيب محفوظ مرة أخرى إلى عالم السينما من باب آخر غير باب الروايات، إذ فوجئ جمهور السينما الذى ذهب ليشاهد العرض الأول لفيلم (الناصر صلاح الدين) فى 25 فبراير 1963 بأن اسم نجيب يتصدر قائمة من ثلاثة أسماء تحت بند علاج القصة التى كتبها يوسف السباعى! أما الاسمان الآخران فهما المخرج الرقيق عز الدين ذو الفقار والمخرج محمد عبدالجواد! فى حين كتب سيناريو الفيلم السباعى نفسه ومخرجه يوسف شاهين، وفى آخر هذا العام أشرقت رواية أخرى لنجيب على الشاشة البيضاء، فأخرج حسن الإمام فيلم (زقاق المدق/ صدرت فى 1947) الذى عرض فى 21 سبتمبر 1963، أى بعد 16 عاما من صدور الرواية ليحقق نجاحا جماهيريا معتبرًا، لكن جوهر الرواية انزلق من المخرج إلى حد كبير، ولا بأس عليه فى ذلك، فصانع الرواية غير محقق الفيلم، والرواية تخاطب النخبة القارئة الباحثة عن الثقافة والمتعة والمعرفة، بينما الفيلم السينمائى يتوجه نحو الجمهور العام يستهدف إمتاعه سريعاً فى أغلب الأحيان، ومع ذلك فقد احتفى حسن الإمام بنجيب وكتب اسمه ببنط كبير وواضح بشكل منفرد.
بين القصرين
العجيب أن رواية (بين القصرين) أول أجزاء ثلاثيته موفورة الصيت قد أنهى كتابتها عام 1952، ولم تطبع إلا فى سنة 1956، ثم عرفت طريقها إلى الشاشة البيضاء عام 1964، ويبدو أن النجاح الذى حققه حسن الإمام فى فيلم (زقاق المدق) أغراه بالتعامل مع أجواء الحارات العتيقة والزمن القديم، وهكذا كتب اسم نجيب بخط فارسى جميل مرفوقا بوصف الكاتب الكبير قبل اسم الرواية والممثلين، رغم أن يحيى شاهين كان نجماً كبيراً فى تلك الآونة، وقد قام بتجسيد أشهر شخصية سينمائية فى تاريخ الفن السابع، ألا وهى شخصية (سى السيد عبدالجواد).
اللافت للانتباه أن عم نجيب لم يسلُ أجواء السينما رغم ما بدأت تحققه رواياته من حضور قوى على الشاشة، فها هو يعود إليها من الباب الخلفى، حيث عرض له فى 28 سبتمبر 1964 فيلم (ثمن الحرية) الذى أعده نجيب نفسه عن مسرحية للكاتب العالمى عمانويل روبليس كما جاء بالنص فى مقدمة الفيلم، وقد احتفى المخرج نور الدمرداش باسم نجيب فوضعه فى لوحة واحدة على الشاشة مكتوبا بخط رقعة جميل وناصع، رغم أن جميع أبطال الفيلم ونجومه محمود مرسى وصلاح منصور وكريمة مختار لم تكتب أسماؤهم بشكل منفرد، باستثناء عبدالله غيث! أجل.. إن عالم محفوظ بالغ الثراء روائيًا وسينمائيًا، والمساحة المتاحة أضيق كثيرًا من محفوظ وخياله، فدعنا نكمل رحلتنا مع الرجل وكتاباته وسينماه فى الأسبوع المقبل!
«حب الوطن فرض عليّا»
من المفارقات العجيبة أن تعزيز الشعور الوطنى لدى المصريين ترافق مع تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، فقد أججت ثورة 1919 مشاعر الشعب ودعمت إحساسه بذاته وقوته، ومن ثم حقه فى التخلص من الاحتلال الإنجليزى، فى الوقت الذى شرع فيه حسن البنا فى لملمة الناس حول مشروع جماعته فى سنة 1928، الذى يخاصم فكرة الوطن، إن لم يكن يحتقرها!
صحيح أن قوات الاحتلال أسهمت بنصيب فى تشجيع البنا من باب صرف الناس عن العمل السياسى والاكتفاء بالعمل الدعوى الدينى (يقول العقاد إن الإنجليز منحوا حسن البنا 500 جنيه، وهو رقم فلكى فى ذلك العصر، لتسهم فى تمويل الجماعة)، لكن يصح القول أيضًا إن الشعب المصرى فى مجمله ظل وفيًّا لفكرة الوطن مدافعًا عنها بكل طاقته، ومن ينس بيت أمير الشعراء أحمد شوقى الذى قاله فى منفاه بالأندلس:
وطنى لو شغلت بالخد عنه نازعتنى إليه فى الخلد نفسى!
أكبر دليل على ذلك أن الموسيقار الأعظم محمد عبدالوهاب ترنم بموال فى بداية ثلاثينيات القرن الفائت يقول مطلعه (مسكين وحالى عدم من كتر هجرانك.. يا اللى تركت الوطن والأهل علشانك)، وما إن سمع مصطفى النحاس باشا، زعيم حزب الوفد الذى يخوض معركة حامية ضد الإنجليز من أجل حق مصر فى الاستقلال، هذا الموال حتى استشاط غضباً، وعاتب عبدالوهاب بشدة لأنه لا يليق أن يهجر رجل وطنه من أجل حبيبة هجرته أو امرأة خانته.
على الفور التقط عبدالوهاب الإشارة وشرع فى تلحين وغناء مقطوعة جديدة كتبها الشاعر الغنائى أمين عزت الهجين، يقول مطلعها (حب الوطن فرض عليّا أفديه بروحى وعينيّا) ثم يقول (يا مصر أنا رضعت هواكى من الصبا وجرى فى دمى.. أحب نيلك وسماكى.. أنت أبويا أنت أمى.. أرواحنا وشبابنا فداكى.. وفداكى روحى وعينيّا).
ليتك تنصت إلى هذه الأغنية فى موقع اليوتيوب لتتأمل وتستمتع بمشاعر فياضة تعترى روحك وينبض من أجلها قلبك.
محمد التابعى.. أستاذ الأناقة الصحفية والأسلوب الرشيق
تستطيع أن تقول بيقين كبير، إن أى صحفى مصرى حقق نجاحًا لافتاً فى القرن العشرين، مدين بشكل أو آخر إلى الأستاذ محمد التابعى، من أول الأخوين على ومصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل، حتى أحمد بهاء الدين وسلامة أحمد سلامة وصلاح الدين حافظ، ذلك أن الرجل الذى تمر ذكرى رحيله السابعة والثلاثين هذا الأسبوع (رحل محمد التابعى فى 24 ديسمبر 1976) كان علامة فارقة فى تاريخ الصحافة المصرية، إذ تمتع بخصال فريدة منها مقدرته على الاقتراب الشديد من أجواء الملوك والأمراء والساسة والفنانين، الأمر الذى يجعله يقف على مسافة قريبة جداً من مصادر صنع الأحداث والأخبار، ولك أن تعلم أنه كان الصحفى الوحيد الذى رافق الملك الجديد فاروق فى رحلته الطويلة إلى أوروبا، كى يكتسب هذا الملك الصغير قدراً من الخبرات، حيث أقلعت الباخرة (فايسروى أوف إنديا) من بور سعيد فى 27 فبراير 1937 وعلى متنها الملك وأمه وحاشيته.. والتابعى! لكن أبرز صفات مؤسس آخر ساعة، تتجلى فى براعته المدهشة فى ابتكار أسلوب صحفى بالغ الرشاقة والحلاوة (سنطالع نموذجاً من كتاباته بعد قليل)، هذ الأسلوب الناصع فرض نفسه على مجمل عالم الصحافة فى أثناء حياته وبعد رحيله!
شهادة هيكل
لمع اسم التابعى مع صدور مجلة (روز اليوسف) عام 1925، أى بعد اندلاع ثورة 1919 بستة أعوام، وهى الثورة التى غرزت فى صدور المصريين مشاعر العزة والإحساس بالذات، لكنه حقق حضوراً قوياً حين أصدر مجلة (آخر ساعة) فى سنة 1934، ثم شارك محمود أبوالفتح وكريم ثابت فى تأسيس جريدة (المصرى) فى أكتوبر 1936 وكان شعارها (على مبادئ الوفد المصرى).
يقول الأستاذ محمد حسنين هيكل فى تقديم كتاب (من أسرار الساسة والسياسة.. أحمد حسنين باشا) لمحمد التابعى الصادر عن دار الشروق (يقال عن رجل أنه صاحب مدرسة فى علمه أو فنه إذا وصل تأثيره فى مجاله إلى درجة يختلف معها ما بعده عما قبله.. وذلك نموذجى فى حالة التابعى، فقد اختلف مجال الكتابة الصحفية بعده عما كان قبله، وفى هذا الاختلاف بين السابق واللاحق يتبدى حجم تأثيره، مثله فى ذلك مثل غيره من مستواه فى مسيرة أى علم أو فن).
انتهت شهادة هيكل، وأظنك أدركت الآن قيمة الرجل فى تاريخنا الصحفى، خاصة وقد ظل يعمل فى الصحافة حتى بلغ الخامسة والسبعين من عمره (هو من مواليد 18 مايو 1896)، وإذا قدر لك أن تطالع عدداً من صحيفة الأخبار الصادر فى سنة 1972 ستكتشف أن محمد التابعى يتصدر قائمة رؤساء تحرير الجريدة!
لم يتوقف نشاط التابعى عند بلاط صاحبة الجلالة فحسب، بل اقتحم عالم السينما، حيث كتب لها قصص عدة أفلام منها (عندما نحب/ عرض فى 5 يونيو 1967) بطولة رشدى أباظة ونادية لطفى وأخرجه فطين عبدالوهاب، وفيلم (نورا/ عرض فى 25 ديسمبر 1967) بطولة كمال الشناوى ونيللى وحققه محمود ذو الفقار.
نماذج من كتاباته
يصح القول إن الأفلام التى كتبها التابعى لم تكن علامات بارزة فى تاريخ السينما، لكن هذا لا يمنع أحقيته التامة فى الفوز بلقب مجدد الصحافة المصرية وأميرها الأول بامتياز، وقد ترك لنا عدة كتب مهمة منها (من أسرار الساسة والسياسة.. أحمد حسنين باشا)، و(أسمهان تروى قصتها) وغيرها.
تعال نطالع نماذج من كتابه عن حسنين باشا. يقول فى التقديم: (لقد اشتغلت بالصحافة ثلاثين عامًا، وعرفت فيها عشرات وعشرات من الزعماء والساسة، وربطتنى ببعضهم أواصر الصداقة والثقة، وبوحى هذه الصداقة والثقة أفضى إلىّ بعضهم بأسرار كثيرة، وكشف أمامى بعضهم عن مكنون صدره، بل عن خفايا ضعفه.. فهل أروى اليوم كل ما سمعت أو بعضا مما سمعت؟).
ويقول فى موقع آخر من الكتاب (وفاروق الطاغية.. فاروق هذا نفسه لا أستطيع أن أكتب وأروى عنه كل ما أعرف.. لأننى إنسان.. لقد كتبت عن طغيانه وحاربته قدر ما استطعت.. وهو ملك وحاكم بأمره.. وكتبت عن فاروق بعد خلعه وطرده.. كتبت ولم أرحمه وأسهبت فى سرد قصص مخازيه وفضائحه.. ومع ذلك فإننى لم أنس فى كل ما كتبت أننى إنسان.. فلم أذكر مثلا لماذا بكى ذات يوم فى دار صغيرة فى حى جناكليس برمل الإسكندرية فى صيف عام 1937؟).
أرأيت طراوة الأسلوب، وذكاء الصياغة؟ ترى.. هل أدركت الآن كيف تولى التابعى تطوير الصحافة المصرية، وكيف صار أسلوبه الرشيق المنارة التى يهتدى بها الصحفيون من بعده؟
الطريق إلى الوقائع المصرية «2-2»
بعد رحيل الحملة الفرنسية عن مصر فى 1801 توقف إصدار صحيفة (بريد مصر) التى أصدرتها الحملة، فانقطعت علاقة المصريين بالصحافة حتى تسلم محمد على السلطة فى 1805، فأدرك أهمية الصحف فى ذلك الوقت، ولأنه كان يمثل شوكة فى خصر الدولة العثمانية التابع لها اسميًا على الأقل، كما أن القوى الكبرى آنذاك، إنجلترا وفرنسا تحديداً، سعت باستمرار إلى السيطرة على مصر، إن لم يكن احتلالها، لذا كان الوالى الجديد الذى لا يعرف اللغة العربية، وذلك من عجائب الأقدار، يحرص الحرص كله على متابعة الأخبار فى الصحف الأوروبية، الأمر الذى دعاه إلى تهديد وإنذار الخواجة بغوص، إذا تأخر فى إرسال الصحف الأجنبية إليه كما فات عليك فى الحلقة السابقة! فلما دان له حكم مصر بصفة نهائية إثر مذبحة المماليك فى 1811، اتخذ أولى خطواته لإصدار أول صحيفة مصرية تعبر عن طموحاته وأحلامه وآماله فى السيطرة والاستحواذ، لكن أنّى له بإصدار صحيفة ومصر بأسرها ليس بها مطبعة واحدة، فقد أخذت الحملة الفرنسية المطبعة التى أحضرتها معها حين أجبرت على الرحيل من مصر؟
فى عام 1815 أرسل محمد على (نيقولا مسابكى البيروتى إلى ميلان فى إيطاليا مع ثلاثة من صبيان آخرين لدراسة فن سبك الحروف وصنع أمهاتها ودراسة فن الطباعة) كما يقول الدكتور أحمد الصاوى محمد فى كتابه (فجر الصحافة فى مصر). وهكذا مكث مسابكى أفندى فى إيطاليا نحو أربع سنوات، ثم عاد إلى القاهرة ليؤسس أول مطبعة فى مصر وهى مطبعة بولاق أو مطبعة (صاحب السعادة) التى تم افتتاحها فى سنة 1235 هجرية، أى بين شهر أكتوبر 1819، وأكتوبر 1820.
جورنال الخديوى
فى مطلع عشرينيات القرن التاسع عشر، أصدر محمد على باشا قرارًا بإنشاء إدارة تحت اسم (جورنال الخديوى)، فى القلعة، حيث مقر الحكم، وقد تولى الإشراف عليها رجل موثوق به هو محمود أفندى أو (جورنال ناظرى) أى مدير الجورنال، وكانت مهمته تتلخص فى جمع التقارير والبيانات من إدارات ومراكز الحكومة فى الأقاليم وإعادة صياغتها وتحريرها بمعاونة نخبة من الكتاب الذين يجيدون العربية والتركية، ثم يعرض التقرير فى صورته النهائية على الوالى، وكان يطبع من هذا التقرير مائة نسخة يومياً باللغتين العربية والتركية، ويتضمن الأخبار الرسمية الحكومية وبعض قصص ألف ليلة وليلة، وكان هذا التقرير الذى يمكن وصفه بالجريدة الرسمية إلى حد ما، يرسل إلى كبار رجال الدولة الذين يعنيهم الوقوف على أحوال البلاد!
أى أن «جورنال الخديوى» لم تكن معنية بالشعب المصرى لا من قريب ولا من بعيد، بل هى (جريدة) خاصة تيسر على الباشا أمور تنظيم شؤون الدولة، ومع ذلك، لم ينتظر محمد على طويلاً حتى أصدر أوامره بإصدار جريدة (الوقايع المصرية) ليصدر العدد الأول فى 3 ديسمبر 1828.
الوقائع بالتركية والعربية
لم يكن للوقائع المصرية موعد ثابت فى الصدور، فأحياناً تصدر ثلاث مرات فى الأسبوع، وأخرى مرة واحدة، وأحياناً تطول المدة لأكثر من عشرة أيام بين العدد والذى يليه، كما لم يكن لها عدد أوراق ثابت، فمرة أربع صفحات، ومرة ثمانية وأخرى ثمانى عشرة صفحة، كما يقول الدكتور إبراهيم عبده فى كتابه (تاريخ الوقائع المصرية). ومن الطريف أن الوقائع كانت تصدر بلغتين: التركية على يمين الصفحة، والعربية فى اليسار، فلما تولى تحريرها رفاعة الطهطاوى عام 1842 جعل اللغة العربية على اليمين، وهو أول مصرى يرأس تحرير أول صحيفة مصرية، وقد أصدر قراراً بأن (تصدر الجريدة الرسمية بشكل منتظم كل أسبوع فى يوم الجمعة المبارك، وأن يكون لها مكان للبيع هو دار الطباعة العامرة ببولاق، وقدر لثمن النمرة/ النسخة الواحدة قرشا)، وقد نشرت الوقائع فى عهد الطهطاوى أول قصيدة شعرية أبدعها (الأديب الأريب الشيخ محمد شهاب الدين باش مصحح دار الطباعة).
فى البداية تولى مسؤولية الوقائع المصرية سامى أفندى الذى عين لتحرير المادة التركية، وقد أمر محمد على (جرياً على أصول أوروبا) أن تهدى الوقائع إلى كبار رجال الدولة والضباط الذين يقودون الجيش المصرى فى كريت والشام والسودان وجزيرة العرب، و(أن يرسل عددين من الوقائع لكل من حرمنا المصون) بنص قرار محمد على، كما أمر بتوزيعها على الطلاب مجاناً.
اللافت أن الوقائع ظلت تصدر موضوعات متنوعة من أخبار سياسية وقوانين وقرارات وقصص وأشعار وحوادث حتى سنة 1884، حيث تحولت إلى جريدة رسمية متخصصة فى نشر قوانين الدولة فقط، بعد أن تطورت الصحافة فى مصر بالتزامن مع حركة تطور المجتمع المصرى فى جميع المجالات، كما لاحظ بحق الدكتور لويس عوض فى كتابه (تاريخ الفكر المصرى الحديث).
عطر الأحباب .. نجيب محفوظ والسينما .. محمد التابعى.. أستاذ الأناقة الصحفية والأسلوب الرشيق .. الطريق إلى الوقائع المصرية «2-2»
الجمعة، 20 ديسمبر 2013 01:33 م
نجيب محفوظ
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة