محمد عبد الناصر

هل التاريخ أصولى بطبعه؟

الأحد، 10 مارس 2013 04:20 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
يقول بعضهم: لا ترتبط بامرأةٍ لها ماضٍ، ولا بأمةٍ لها تاريخ!.. قد يكون شيئاً جميلاً أن يولد الإنسان ولديه أهرامات ومومياوات ملوك وأفكار وزعامات محنطة وشواهد قبور وأعياد أثرية وتراث كونى الاتساع، هذا فعلا رائعٌ جدا..أين الخطأ إذن؟!

الخطأ فى أن يتحول هذا التاريخ الطويل الحى إلى حفريات أصولية متحجرة..! وهذا لا يحدث إلا بمرور وقت طويل جدا، ومع وجود عوامل حفز قوية.. وأقصدُ هنا الأصولية بمعناها الواسع، وليست الأصولية الدينية وحدها، أو أريد أن أشير إلى الأصولية كحالة من التشبث غير العقلانى بأى حفنة من الماضى والانغلاق عليها، والعمل على إعادة تكرارها وتجميدها وتحنطيها إلى الأبد! سواءٌ فى الفن أو الفكر أو العلوم أو الدين أو السياسة أو غير ذلك من مجالات السعى الإنسانى.

ودائما ما كنتُ أسأل نفسي: هل يجب أن يتحول التاريخ دائما إلى حمل على أكتافنا بدلا من أن يكون منصة لانطلاقنا ؟! هل تحول تاريخنا إلى كرة حديد مربوطة فى أقدامنا ونحن نحاول السباحة بين أمواج الحاضر والمستقبل ؟ أو بكلمات أخرى: هل التاريخ أصولى بطبعه؟

كان هناك اعتقادٌ سائدٌ قديما لدى بعض الأدباء العرب، بأن الكتابة الجيدة ما هى إلا إعادة إنتاجٍ لنصوص سابقة، حيث يقول الشاعر الجاهلي: ما أرانا نقولُ إلا مُعارًا .:. أو معادًا من قولنا مكرورا
وهذا كلام فارغ مقارنةً بحجم الإبداع الذى تم تقديمه منذ ذلك العصر حتى يومنا هذا، على أنهم لم يكونوا يتخيلون أن يحدث أى تجديد فى اللغة أو الخيال أو الموسيقى أو أى شيء، لأنهم وصلوا إلى القمة بحسب وجهة نظرهم آنذاك!!

وكان علماء الفقه الأصوليون قديما يقولون بعدم جواز إعادة طرح مسألة ما من المسائل الفقهية فى أى زمن من الأزمان اللاحقة إذا ما أجمع علماء عصر من العصور السابقة على رأى فيها.

والحقيقة وراء هذه الأفكار كلها، هى أنها خرجت من بيئة يحمل سكانها تاريخا عريضا ومحترما، ومن فرط احترامهم لهذا التاريخ وانبهارهم به، شعروا بأنه غاية الإنجاز والإبداع والابتكار، وبأن أى شيء فى هذا المجال أو غيره يُمكن أن يُكتشف أو يُخترع.. فإن أحدا ما من القدماء قد سبق إليه بكل تأكيد..أى أنه لا حاجة لأى إبداع ولا لأى ابتكارات..أو أن كل ما يجب عمله قد تم فعله بطبيعة الحال! وهذه هى أخطر الآثار السلبية لقراءة التاريخ وكتابته، وهى بذرة الأصولية.

والعلم الحديث، عندما اتسع، وبدأ يتحول إلى "تاريخ" أنتج لنا أصوليات من هذا النوع.. أشخاص فى كل مكان فى العالم يعتقدون اليوم بأن كل مكان على سطح الأرض لا بد أن إنسانا قد وصل إليه من قبل، أو تم تصويره بالأقمار الصناعية، أو أن هناك من يشرب الشاى الآن على مقهى تم افتتاحه فى يوم من أيام التاريخ الطويل فى هذا المكان!

فضلا عن أن هناك حيلةً أخرى خطيرة يحتال بها التاريخ على معظم قرائه ومحبيه وورثته، حيث يقف أى شخص يتجاوز كل العقبات السابقة أمام سؤال حساس فى حال إذا ما أراد أن يكتشف أو يخترع أو يجدد أو يُحدث أى تغيير فى الحياة التى نعيشها.. السؤال يقول : هل من الممكن أن يكون هذا المكتشف أو المخترع أو المبدع على صواب وملايين الناس عبر مئات أو آلاف السنين كانوا على خطأ؟!

والحقيقة أن حيلة الإجماع هذه تنجح دائما على الرغم من سذاجتها..! وإجابتى على هذا السؤال هي: نعم بالتأكيد! وما المانع؟! هذا ممكن نظريا وعمليا..! وحدث كثيرا.

المحك يجب أن يكون من لديه تجربة أدق، وأدوات أكثر فعالية وموضوعية، ومصادر بحث أكثر شمولية واتساعا، وهذه أشياء تتجدد باستمرار، ولا يجب أن يكون المحك هو كم عدد الناس الذين يصدقون فى هذا الشيء أو ذاك، أو كم عدد السنوات التى أبلاها الناس وهم يفعلون كذا أو يقولون كذا أو يأكلون كذا أو كذا.
لأنه حتى 500 سنة مضت -فقط- كان كل البشر الذين يعيشون فى العالم هم وآباؤهم وآباء آباء آبائهم يجمعون على أن الأرض هى مركز الكون، باستثناء الفقير إلى عفو ربه/ نيكولاس كوبرنيكوس..!

وتخيل: كم مليون شخص فى كم عصر فى الزمان خطرت له أفكار واكتشافات وإبداعات عبقرية فى الفلك والجغرافيا والملاحة أجهضها إرهاب الإجماع المزيف، وحيل التاريخ الخداعة، ورغبة الناس فى تحنيط استقرارهم الوهمى فى نقطة ما يظنونها الغاية!
إن تقادم الأشياء وكثرة عدد المؤمنين بها لا يعنى بالضرورة أنها حقائق.

التاريخ ليس أصوليا فى حد ذاته.. ولكننا نجعله كذلك، عندما نُعلّم أنفسنا أبناءنا الأصولية ضمنيا إذ نعلمهم التاريخ قبل أن نعلمهم الشك، وعندما نخبرهم بما يجب أن يفعلوه وما لا يجب أن يفعلوه لكى يكونوا مثل الناس التى عبرت إليهم من قناة الزمن، ولا نخبرهم بأن هذا اليجب واللايجب هو اجتهادات بشرية يمكنهم أن يقدموا مثلها أو أفضل منها!

والأخطر من ذلك عندما نستهين بأسئلة أنفسنا وأسئلة غيرنا ونسد طرقات أمخاخنا بحواجز مصطنعة، ونتهرب من أفكارنا وهواجسنا وأسئلتنا مختبئين فى قطيع التاريخ المخداع، حيث تتحول أصولياتنا القديمة إلى تاريخ، ثم يتضمن تاريخ هذه الأصوليات خطاباتها الدعائية، لتنجب لنا عندما تتلاقح مع عقول ما جامدة فى أى زمن قادم من الأزمان ظواهر أصولية بنت أصولية بنت أصولية..!

بالمناسبة.. فإن الإنسان اليوم ربما يكون فى عصر متخلف جدا من عصور تاريخه مقارنةً بزمنٍ ما سيجيء فى المستقبل، نحن نؤخره!

كل ما قدمه الإنسان فى الماضى كان ومازال من الممكن أن يقدم أفضل منه، إذا زاد الإنسان ثقته فى مستقبله قليلا، وزاد شكه فى ماضيه قليلا، على الأقل إلى المستوى الصحى الذى لا يغلق باب الإبداع، ولا يرص العوائق فى طريق التجدى.





مشاركة




التعليقات 2

عدد الردود 0

بواسطة:

عابر سبيل

المشكلة ليست فى التراث والتاريخ

عدد الردود 0

بواسطة:

درويش المعتزل

يكونش قصدك؟

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة