روى أبو داود فى سننه عن أبى هريرة عن النبى، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "يبعثُ اللهُ على رأس كل مائةِ عامٍ مَن يُجدد لهذهِ الأُمَّةِ أمرَ دينِها"، وهو حديثٌ صحيح مشهور.
كثيرًا ما كنتُ أتوقف مع هذا النص عند طريقة تعاملنا مع النصوص الدينية عموماً، وكنتُ أعتبر تعامل الأمة معه قديمها وحديثها، وفهمها له على النحو الذى سيق عليه بالخصوص مثالا نموذجيا لأزمة اختلاط الهوى والهوس الثقافى والمجتمعى بالمعيار والمنهج فى قراءة النص الدينى.
كيف فهمت الأمة هذا النص؟
جرى اتفاق الغالبية الساحقة من الذين تعاملوا مع هذا النص ابتداءً أو اتّباعًا أن المقصود منه أن نعرفَ أن فى كل قرن إماما عظيما أو عالما علامة أو داعية فذا هو بالتأكيد مجدد هذا القرن.. وتم تأليف الكتب والمصنفات فى هذا الموضوع قديما وحديثا، وأطلقت الألقاب على الناس بناءً على هذا الفهم، فصار فلان مجدد القرن الفلانى، وعلان مجدد القرن العلانى.. وفى كل فترة يخرج علينا كتاب جديد يرصد مجددا كل قرن من القرون التى سبقته.. إلى آخر هذا السياق كله.
فما المشكلة إذن فى هذا الفهم وهذا التصرف الذى انبنى على هذا الفهم؟
المشكلة هى أن التفسير الموضوعى لهذا النص يؤول إلى غير ذلك بالمرة، وكل متخصص فى اللغة أو البلاغة يعلم جيدا أن "مَن" التى تتعدد استخداماتها ودلالاتها فى اللغة، تكونُ فى حالة إفادتها الوصل بمعنى "الذى" و"اللذان" و"الذين".. أى أنها تكون للواحد وللاثنين وللمجموعة.. فتقول: رأيتُ مَن قامَ، وسمعتُ مَن قالا، وتركتُ مَن أسرفوا.. وأزيدك من الشعر بيتًا: "مَن" تكون للذكر وللأنثى..!
إذن، فالمفسر الذى تعامل مع نصٍّ يقول "من يجدد لهذه الأمة أمر دينها"، على أن المقصود به شخصٌ واحدٌ ذكر بالتحديد، لم يُفسر بناءً على معطيات موضوعية، ولكن على هواه الثقافى والمجتمعى.. فهذا التفسير ابن ثقافة أبى زيد الهلالى، البطل الفرد الواحد المغوار المنقذ الذى لم تنجبه ولادة.. والذى سيفعل لنا كل شىء، وما علينا إلا أن نتبعه عندما يجىء.. هذه قراءة مضادة للتعدد ومنحازة للمركزية الإمامية.. التى فيها مسحة لا تخطئها العين من أفكار الشيعة.. ولكن فى ثياب سُنية.
السؤال هُنا يقول: ما دامت قواعد اللغة معروفة منذ قديم الزمان، وأطروحات البلاغة على رفوف المكتبات متعايشة مع التراب الذى يكسوها، وأدوات القراءة والفهم والتحليل متاحة ومجانية.. فلماذا مرت كل هذه القرون ولم يقم أحد بتصحيح فهم النص؟ هُنا المسؤولية يشترك فيها طرفان.. الأمة والمؤسسات.. الأمة التى وجدت التفسير المغلوط وثقافة الفرد المُخلص على هواها وتريحها من التفكير والاجتهاد وتحيلها باستمرار إلى انتظار الفرج المرتجى من السماء، والمؤسسات التى تتاجر فى الحفريات والديناصورات وتؤصل لتخلف المسلمين وتظن أنها تحمى الدين بهذه الطريقة! بينما هى لو تركت مساحة لتوضيح إساءة فهم قديمة توارثناها وقدسناها تقديسنا للثوابت، لما حدثت هذه المشكلة.. مع هذا النص.. ومع غيره من النصوص الكثير والكثير.. التى مازالت فى انتظار "المجددين" و"المجددات" الحقيقيين والحقيقيات..!!
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
mostafa abdeen
أحسنت
:)