نموذجان يخطران فى البال عادةً عندما أتابع تطور الأمور فى سوريا، النموذج الأول، هو نموذج الحرب الأهلية اليونانية التى دارت فى الأربعينات من القرن الماضى ما بين قوات الجيش اليونانى النظامى المدعوم من الأمريكان والإنجليز، وبين قوات المعارضة الشيوعية المسلحة المدعومة من الاتحاد السوفيتى ويوغسلافيا، وانتهت بهزيمة "المعارضة"، والنموذج الثانى، هو نموذج الثورة الكوبية التى قادتها المعارضة الشيوعية المسلحة متمثلة فى قوات فيدل كاسترو وتشى جيفارا ورفاقهم فى مطلع الخمسينات من القرن الماضى، مقابل نظام باتيستا العسكرى المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية، وانتهت بهزيمة "النظام".
وأتصور أن الوضع فى سوريا سيئول إلى نتيجة مشابهة لنتيجة إحدى التجربتين السابقتين، وأستبعد التقسيم، لأن التقسيم يتطلب خطا ما وهميا يمكن رسمه للفصل جغرافيا بين مناطق سيطرة النظام ومناطق سيطرة المعارضة، وهذا ليس موجودا فى التجربة السورية، كما أن التقسيم يتطلب قدرة كل من الطرفين على قبول فكرة استمرار الطرف الآخر فى نطاق ما، وهذا أيضا ليس متوفرا، فالذى فى سورية معركة ستنتهى بهزيمة أحد الطرفين وانتصار الطرف الآخر، كما هو الحال فى الثورة الكوبية أو الحرب الأهلية اليونانية.
وفى كل من النموذجين السابقين عناصر مميزة متشابهة مع ما يحدث فى الثورة السورية، وعناصر غيرها مختلفة، بينما تنفرد الثورة السورية وحدها بسمات أخرى فريدة.
العنصر الأبرز- وإن لم يكن الأوحد- الذى يمكننا ملاحظته فى كل هذه النماذج مجتمعة، هو أنه لا يوجد معارضة مسلحة تستغنى عن الخارج، كما أنه فى المقابل لا يوجد نظام يواجه ثورة مسلحة أو حركة تمرد مسلحة لديها قدر ما من الاستمرارية ويستغنى هو الآخر عن الخارج، فنجد أنه بمجرد نشوب الاقتتال الأهلى المسلح تتحول المسألة إلى ما يشبه الصراع الدولى على أرض هى ملك لشعب ليس له مصلحة مع أى من الأطراف الأجنبية المتصارعة فى الغالب، بل إنه يتعرض للظلم قبل الثورة أو الحرب الأهلية وبعدها أيضا، فيعانى من قمع النظام المستبد، ثم تدمر الثورة الحرب بلده، ثم فى النهاية يتمخض الجبل فيلد نظاما شموليا متشددا كما فى حالة كوبا، أو نظاما مهترئا ينهش فيه الانقلاب العسكرى تلو الآخر كما فى حالة اليونان.
والعامل المشترك أيضا الذى يمكننا ملاحظته بوضوح فى تجربتى سقوط المعارضة المسلحة فى اليونان أو الجيش النظامى فى كوبا، هو أن اهتزاز أو فتور الدعم الخارجى لأى طرف من الأطراف يعد عاملا حاسما فى الوصول به إلى الهزيمة المحققة، كما نلاحظ استعانة الطرف المنتصر بوسائل أخرى معززة للانتصار غير الوسائل العسكرية الصرفة، وهنا تكمن أهمية استمرار العمل الثورى الاحتجاجى جنبا إلى جنب مع العمل العسكرى، وتكمن أهمية الرهان على الكتلة الحرجة من الشعب، وعدم ترك الأمور تتفلت حتى تصبح الثقة فى حسم المعركة كلها رهن السلاح، بينما يقف معظم الناس على "الحياد" مما يحدث، أو تنقسم حوله الآراء انقساما حديا واضحا.
لدينا فى سوريا قوى ثورية تمتاز بالتنوع والترابط فى الوقت نفسه، فهناك المقاومة المسلحة بالطبع، كما أن المظاهرات الشعبية السلمية والإضرابات ومقاطعة النظام مازالت مستمرة نوعا ما فى مناطق عدة تأييدا للثورة وللمقاتلين، وهناك أيضا التنسيقيات المحلية التى تعطى الثورة بعدا أكثر تجذرا بالأرض، ولدينا بدون تحفظ درجة من درجات الدعم الأمريكى للمعارضة، ليس حبا فيها، ولكن خوفا من توغل الروس والإيرانيين فى المنطقة، ونقول ليس حبا فيها لأن الأمريكان على الرغم من رفضهم للنظام فإنهم لا يقبلون المعارضة تماما لأنها "إسلامية"، أو لأن هذا هو الطيف الغالب عليها عموما، وهم لا يدعمونها إلا بالقدر الذى يجعل الوضع متأرجحا، ولا يوصل المسألة إلى لحظة الحسم السريع، فى انتظار جلوس الأطراف الأجنبية المشاركة فى القصة من الخارج فى لحظة من اللحظات، ليقرروا تقسيم "التركة السورية"- سياسيا وليس جغرافيا- والتخلى عن الأسد الذى أحرق نفسه وأحرق الأرض، وليتدبروا طريقة يقيمون بها نظاما ما جديدا تكون مهمته الأولى جمع السلاح، وإيقاف البلد فى الطابور!.
وعلى خلاف ما كنت أحب أن أتمنى، فإننى أرى أن مسار الثورة السورية الحالى لن يتمخض عنه نظام ديمقراطى، وقد لا تنتهى الثورة بسقوط بشار بالضربة القاضية كما حدث لمعمر القذافى، ولكننا بعد كل هذا الدمار الذى لحق بالوطن اقتصاديا واجتماعيا وطائفيا وعسكريا، أمسينا نتحدث عن بلد أمامه فى الواقع ما لا يقل عن عقدين من الزمن لكى يلملم جراحه، وتعود حياته للاستقرار بشكل طبيعى من جديد.
وبعيدا عن كل التعقيدات التى فى الموضوع، مازال فى داخلى شىء حالم، يقول لى إننا يجب أن نرفض ما تجرنا إليه هذه المعطيات كلها، وندعم فى السوريين الطرف الذى لم يؤسس لمدة أربعين سنة ديكتاتورية عسكرية وراثية قمعية شديدة الاستبداد، زجت بالأيدى الأجنبية فى التراب الوطنى الطاهر، وتاجرت بالقضية الفلسطينية وبالمقاومة، وقررت ألا تترك السلطة إلا على أنقاض الوطن وجثث المواطنين.
قد تكون المعارضة المسلحة أخطأت، بقبولها الدعم الأمريكى، واستعدادها أيضا لتدخل الناتو، وقد تكون أخطأت عندما اختارت أن تكون مسلحة أصلا..!، ربما..
لكن علينا جميعا قبل أن نلوم الناس على ما أرغموا على قبوله، أن نتصور أنفسنا فى ظروفهم، ونتخيل أننا عُزل فى معركة مع "شيطان أزرق"، يحمل سيفا يوشك أن يغرسه فى رقابنا، ثم نتصور أن "شيطانا أحمر" رمى إلينا فى هذه اللحظة سيفا ربما ندافع به عن حلاوة روحنا، ولننظر فى هذه اللحظة بالضبط كم واحدا منا لن يأخذ سيف الشيطان.
سوريا الجريحة تحتاج إلى من يتبنى قضية أهلها، وقضية إنهاء معاناة شعبها، ورحيل النظام المستبد، وتوقف الحرب، وبدء الإعمار.. وتحتاج إلى من يقدم لها- بأى شكل كان يوصل إلى هذه النتائج- يد المعونة، بدلا من يد الشيطان الأحمر، فنحن أولى بهم على كل حال من غيرنا من الشياطين!!، وليست سورية فى هذا الوقت العصيب، الذى لا نعرف أين آخره، فى حاجة إلى سياسيين متشدقين بالمثالية ومراهقين يحاسبون المعارضة بالنقير والقطمير فى أدق لحظات الحياة، ويتغاضون تماما عن جرائم النظام الجزار، الذى وجوده حتى الآن فى سنة 2013، يعد فى حد ذاته جريمة.
الجزء الحالم من تفكيرى يتصارع مع الجزء العاقل منه كلما أمعنت النظر فى هذه القضية أكثر، وأتمنى من كل قلبى، أن ينصر الله الحالم على العاقل.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
د/ هدى الصافى
أنا فى انتظاااارك !!
عدد الردود 0
بواسطة:
خالد حسين
مقال رائع