يقول التاريخ على لسان هيرودوت «مصر هبة النيل»، بينما تقول الجغرافيا إن النيل هو أطول أنهار العالم، ويمتد لمسافة 6695 كيلومترا، يقطعها مرورا بتسع دول أفريقية، تختلف فيها مسمياته، بين نهر الجبل، ونهر عطبره، ونهر ألبرت، ونيل فيكتوريا، والنيل الأبيض، والنيل الأزرق، مجتازا عددا من البحيرات والمستنقعات، هى بمثابة المنابع المتجددة للنهر، لكنه يعود ليحمل اسمه الأشهر «نهر النيل» قبل أن يدخل مصر مجرى واحدا، أما الطبيعة فتقول إن النهر ينبع من سبع دول، لديها من مصادر المياه العذبة ما يفيض عن حاجتها، بين بحيرات وأنهار أخرى وأمطار غزيرة، ثم يصب فى دولتين، تعتمدان بصورة أساسية على مياه النيل، بنسب تتراوح بين %77 «السودان» و%97 «مصر».
كان عام 1929 قد شهد توقيع أول اتفاقية تنظم العلاقة المائية بين مصر ودول الهضبة الاستوائية، إضافة إلى السودان، وقد وقعتها مصر ممثلة فى رئيس وزرائها آنذاك، وبريطانيا «العظمى» مندوبة عن حكومات أوغندا وتنزانيا وكينيا، وأقرت فيها بحصة مصر المكتسبة من مياه النيل، ثم منحتها حق «الفيتو» على قيام دول الاتفاقية بإنشاء أية أعمال على مجرى النهر، أو فروعه أو على البحيرات التى تنبع سواء من السودان أو البلاد الواقعة تحت الإدارة البريطانية، إذا كان من شأن هذه الأعمال إنقاص مقدار المياه الذى يصل لمصر أو تعديل تاريخ وصوله أو تخفيض منسوبه على أى وجه يلحق ضرراً بمصالح مصر.
وكانت المحطة الثانية فى مسار تنظيم تقاسم مياه النيل عام 1959، فى اتفاقية ثنائية بين مصر والسودان فرضتها دواعى بناء السد العالى، على أن تكون «اتفاقية مكملة» لاتفاقية 1929 لا تلغيها ولا تكون بديلا عنها.
وقد أعادت الاتفاقية تأكيد حق مصر المكتسب فى مياه النهر وقيمته 48 مليار متر مكعب سنوياً، وحق السودان المقدر بأربعة مليارات متر مكعب سنوياً، وموافقة الدولتين على إنشاء السد العالى فى مصر وخزان «الروصيرص» على النيل الأزرق فى السودان، ثم تضمنت تفاصيل العلاقة المائية بين الدولتين، وفيها توزيع الفائدة المائية من السد العالى بين الدولتين، وبما يرفع حصة مصر إلى 55.5 مليار متر مكعب سنويا، ويصل بحصة السودان إلى 18.5 مليار متر مكعب سنويا.
لكن مياه النهر المتدفقة، بما فيها من شلالات هادرة، راحت تعصف بواقع بدا لعشرات السنين أنه قد استقر واقترب من تخوم البديهيات.
كانت مصر بعد جمال عبد الناصر قد أدارت وجهها عن أفريقيا وانسحبت منها، بينما راحت إسرائيل تملأ فراغا يبحث بالضرورة عمن يشغله، وكانت دول المجرى بعد هدوء صخب حركات التحرر، تتطلع إلى تنمية لا تنفى عنها صفة المشروعية أن وراءها الوافد الإسرائيلى الجديد مشجعا وداعما، بينما تعززها حقيقة أن القانون الدولى لا ينظم اقتسام الحقوق المائية بين دول المجرى، إنما الأمر متروك للدول ذاتها.
وكذلك راحت تظهر فى الأفق منذ عام 1993 محاولات لإعادة صياغة العلاقات المائية بين دول المجرى، من خلال أعمال مشتركة تضمن لكل الدول الاستفادة من الإمكانيات التى يوفرها حوض النيل، أسفرت بعد ست سنوات عن توقيع دول الحوض التسع، مضافا إليها إريتريا مراقبا، بالأحرف الأولى، على اتفاقية «مبادرة حوض النيل»، وبين أهدافها الوصول إلى تنمية مستدامة فى المجال «السوسيو-اجتماعى»، من خلال الاستغلال المتساوى للإمكانيات المشتركة التى يوفرها حوض نهر النيل، وتنمية المصادر المائية لنهر النيل بصورة مستدامة لضمان الأمن،وفى الجديد كان اجتماع كينشاسا «مايو 2009»، بين وزراء دول حوض النيل لبحث الإطار القانونى والمؤسسى لمياه النيل، وقد أسقط من بنوده ما اعتبرته مصر «حقوقها التاريخية فى ماء النيل»، فأسفر عن رفض دولتى المصب «مصر والسودان» التوقيع عليها ما لم تتضمن بندا صريحا يضمن تلك «الحقوق التاريخية»، تبعه اجتماع آخر بالإسكندرية «يوليو 2009» لوزراء خارجية دول الحوض، حذرت فيه مصر من استبعاد دولتى المصب «مصر والسودان» من الاتفاقية، لكنه انفض بقرار منح الدولتين مهلة ستة أشهر للتوقيع.
كانت مصر تدرك أن هناك «أيادى خفية» ولعلها كانت تراها أيضا، تدفع دول المنبع للبحث عن «حقوقها» فى مياه النيل، حسب تصريحات رسمية صادرة عن وزارة الخارجية فى حينه، لكنها بقيت تتحدث فقط عن «حقوق تاريخية» دون أن تدرى، أو لعلها كانت تدرى وتتجاهل، أن «الحقوق» يقابلها بالضرورة «واجبات» كانت قد تخلت عنها طواعية منذ سنوات طويلة.
وفى 10 مايو 2010 اجتمعت فى مدينة عنتيبى الأوغندية خمس من دول حوض النيل، وهى إثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا وكينيا، ووقعت اتفاقا حمل اسم المدينة، لإعادة تقاسم مياه النيل، وقد انضمت لهم لاحقا «أول مارس 2011» دولة بوروندى، ليصبح عدد الموقعين على الاتفاقية ست دول، وبما يعنى ثلثى دول الحوض، وتكتسب بذلك قوتها التنفيذية، وفيها تجريد مصر امتيازاتها فى مياه النهر وبينها حق الفيتو، ونصيبها فى المياه.
وكذلك انقلبت المعادلات، وتغيرت الحقوق التاريخية، وظهر واقع جديد على الأرض.
الحديث عن اتفاقيات سابقة وحقوق مكتسبة لم يعد مجديا، بل أصبح فى ظلال واقع يفرض نفسه، أقرب ما يكون إلى التسول، فى عالم لا يعرف سوى لغة المصالح المتبادلة، والمخاطر الحقيقية التى باتت تهدد مصر والمصريين، أمامها فترة ليست قصيرة حتى تجد ترجمتها على الأرض، بعدد السنوات الضرورية لبناء السد الإثيوبى، ثم بدء مرحلة ملء البحيرة الصناعية المتكونة وراءه، وهى فترة كافية لتستعيد مصر خلالها دورها الأفريقى، تؤدى هناك واجبا ضروريا يترتب عليه بالتبعية حق مشروع فى عدم المساس بأمنها المائى والغذائى، وظنى أن مصر لديها من المؤهلات والقدرات ما يكفى لإعادة صياغة معادلة المصالح المتبادلة فى القارة السوداء.
وبالمقابل فإن إهمال هذا الدور- عجزا أو تقاعسا أو تعاليا- سوف يقودنا- بالضرورة- لمواجهة مخاطر إن كانت لم تزل بعيدة، فإنها لن تلبث أن تحاصرنا، بدوافع ودواع ليست أفريقية خالصة، فهناك إسرائيل والنيل أحد أحلامها التاريخية، ومصر أبرز أهدافها الاستراتيجية، وهناك- أيضا- الولايات المتحدة الأمريكية، وتأمين مصالحها الاستراتيجية فى المنطقة يلتقى مع أحلام إسرائيل وأهدافها.
الكرة الآن فى الملعب المصرى، لكن قواعد اللعبة اختلفت، فماذا نحن فاعلون؟.
عدد الردود 0
بواسطة:
hishamm
مجرد تنبيه
عدد الردود 0
بواسطة:
الزعيم عبد الناصر
الرجا ارسال هذا المقال الرائع الى رئاسة الجمهوريه على يد محضر
لابراء الذمه وللتاريخ
عدد الردود 0
بواسطة:
البرنس
البرنس
تسلم ايديكو