لن نستطيع بكل تأكيد أن نتبنى نمط دولة يسارية كلاسيكية من النوع الذى يسعى إلى تأميم كل شىء، ومصادرة الأملاك الخاصة، وما إلى ذلك من الإجراءات التى مضى زمانها بلا تحفظ، وأصبحت جزءا من الماضى، أو من الخيال الاشتراكى الطوباوى الذى لا طائل منه، ولكن الحل لما نحن فيه فى رأيى هو تبنى نمط من أنماط الاقتصاد المختلط الذى يميل ناحية اليسار، أو إذا صح التعبير يمكننا أن نقول إننا يجب أن نبنى طيفا ما من أطياف "يسار الوسط".
بشكل عام.. ربما لن نستطيع إغلاق الأسواق تماماً، وطرد الشركات العابرة للقارات، ومنع الاستيراد الخارجى ومنع الإعلانات.. إلخ، لأننا أيضا بمراجعة التاريخ يمكننا أن نلاحظ أن مصادرة الحريات الاقتصادية فى العادة تقترن غالبا بمصادرة كل الحريات..! وليس هذا ما نريد أن نؤسس له بعد الثورة.
"الاشتراكية الديمقراطية" كما أحب أن أسميها، تجعل الدولة تتولى زمام التخطيط والتنظيم الاقتصادى والمبادرة بقيادة النشاط الاقتصادى فى الدولة كمايسترو محترف فى أوركسترا متنوعة يتعاون فيها الحكومى مع رأس المال الخاص مع القطاع الأهلى، ويتم تشجع الاستثمار، ولكن وفقا للخطة العامة التى تضعها الدولة للتنمية أو الرفاه، فالدولة هنا لا تتعامل مع الاستثمار الخاص تعامل الند بالند، ولكنها تستعمل المستثمر الخاص كوسيلة لتحقيق تنمية المواطن المسؤول منها، والذى انتخبها بناءً على التزاماتها الاجتماعية والسياسية أمامه.
الدولة إذن يجب أن ترحب بالنشاط الاقتصادى الخاص، ولكن وفق أجندة أولويات تتبناها، أهمها أن مصادر الإنتاج والثورة الكبرى هى ملك للأمة ولا يصح بحال من الأحوال خصخصتها أو إعطاء امتيازاتها لشركات خاصة، لأن هذا يشبه بيع الأهرامات! والذى يتحكم فى مثل هذه الأشياء ويحدد أسعارها وطريقة توزيعها وتداولها، هو تقريبا شريك "غير منتخب" فى نظام الحكم.. وأمثال هؤلاء موجود فى كل مكان فى العالم، يفسدون فى الأرض ولا يصلحون.
ثانيا هناك أولويات فى ملء فراغات خطة التنمية برؤوس الأموال.. المستثمر الوطنى أولى من الغريب، والمستثمر فى نشاط يلبى الاحتياجات الحقيقية للمجتمع أولى من المستثمر فى نشاط يلبى احتياجات مخترعة أو يبيع الهواء النقى فى أكياس مصحوبة بشرائح بطاطس الكوكو واوا التى تعطيك قوة التنين..! والذى يريد أن يستورد يجب أن تلزمه الدولة بخطتها فى الاستيراد لهذا العام، ماذا تريد أن تستورد وعن ماذا تريد أن تمتنع، ومع من تريد أن تتجار، وبكم تريد أن تصدر وبكم تريد أن تستورد، ويجب أن يتلزم الجميع بهذه الضوابط لإيقاف نزيف الاقتصاد الوطنى واختلال الميزان التجارى.
الاشتراكية الديمقراطية تهدف إلى أن يكون للدولة سلطان حقيقى فى حماية حقوق الإنسان والبيئة، والدولة أصلا لا معنى لها بدون هؤلاء الثلاثة: الناس، والأرض، والحكومة، الناس ينتخبون الحكومة على الأرض، ولا ينتخبون مجالس إدارات الشركات، لذلك هم ليسوا مسؤولين أمام الشعب عن أى شيء.. فكيف إذا حررنا الاقتصاد بلا أى قيود أو التزامات وطنية على الطريقة الأمريكية نجعل غير المنتخب أكثر نفوذا من المنتخب فى نظام الحكم؟! وفى نفس الوقت.. إذا حرمنا أنفسنا من رأس المال السائل السريع الموجود لدى الشركات الخاصة، وحُرمنا استغلاله فى التنمية، فإننا نخسر الكثير، وتتحرك الدولة الضخمة ببطء الفيل.
البعض يسمى هذا النوع من الأنظمة بالديمقراطية الاشتراكية، ولكننى أفضل التسمية العكسية "الاشتراكية الديمقراطية"، لأن الاسم الأول يوحى بأننا نتحدث عن نوع ما من الديمقراطية، وهذا ليس المقصود.
البعض قد يتساءل عن جدوى هذا الكلام، وهل إذا ما طبقناه سيكون هناك فعلا استثمار؟ وما الذى يجبر المستثمر على أن يشارك معك فى خطة التنمية التى وضعتها وحدك دون أن تشركه، ويلتزم بقيودك وضوابطك، فى حين أن بلاد الله واسعة والعالم فيه 230 دولة أخرى مؤدبة تسمع كلام البنك الدولى وتطيع الولايات المتحدة الأمريكية وتحرر سعر الصرف وترفع الدعم وتشرب الحليب وتنام مبكرًا.. ويمكن للمستثمر أن يضع أمواله فيها بدلا منك؟!
والحقيقة هو أن هناك شيئين يجب أن نلفت النظر إليهما.. الشيء الأول هو أنه يجب أن تعلم أن لك خصوصية، وأنه سيأتيك استثمار وستنشأ عندك استثمارات مهما كان وضعك، لأن بلدك لا يوجد منها إلا قطعة واحدة فقط فى العالم ويجب أن تعتز بذلك، ربما لن تكون الاستثمارات التى ستأتيك فى هذه الظروف من النوع الذى سيأتيك لو طبقت السوق الحرة، وربما ستكون أصغر وأبطأ، ولكنها على المدى البعيد أفضل سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، والشيء الثانى الذى يجب أن ننتبه إليه هو أننا فى ورطة.. وليست لدينا رفاهية الاختيار.. دعك مما تفعله الحكومة الحالية فى البلد، ومشاريع تأجير الهواء الذى يمر أمام القنال وبيع بخار بحيرة السد العالى باللتر.. هذا كله "عكّ" وسينهار..! نحن بحاجة إلى إصلاح جذرى حقيقى فى رؤيتنا الاقتصادية، والأمر أصبح حتميا الآن قبل أن تحدث الكارثة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة