يرقد نيلسون مانديلا (95 سنة) فى مستشفى بجنوب أفريقيا، على حافة العمر، يعانى من التهاب رئوى حاد ومضاعفاته، تحوطه دعوات شعوب العالم أجمع، بينما تقول آخر الأخبار- ساعة كتابة هذه السطور، صباح الخميس 27 يونيو- إن حالته الصحية تدهورت كثيرا خلال الساعات الثمانى والأربعين الماضية.
الأعمار بيد الله، قد يمن الله على الرجل بشفاء يبقيه بيننا إلى حين، وقد يرحل عن عالمنا بين لحظة وأخرى، لكن نيلسون مانديلا الرمز سيبقى فى التاريخ درسا، بل دروسا لمن شاء أن يقرأ، ومن شاء أن يتعلم.
أمضى نيلسون مانديلا أكثر من ربع عمره (29 سنة) فى سجون التمييز العنصرى، وقضى جُل عمره مطاردا أو سجينا، لكنه لم ينكسر ولم يتراجع، ببساطة لأنه يؤمن بقضية كرس لها عمره، لذلك كان طبيعيا ألا يساوم نظام جنوب أفريقيا العنصرى، وألا يعقد صفقات مع أجهزة أمنه، وكان طبيعيا ألا يقول عن رئيس النظام العنصرى إنه «والد كل المواطنين»، وأن رجاله «من رموز الوطن المحترمين»، إنه الفارق بين من يؤمن بقضية ومن يتاجر فى قضية.
لم يكن ما تعرض له مانديلا من تنكيل واضطهاد مجرد «قرصة ودن» كما كان مع غيره، ومع ذلك لم يعاير الرجل شعبه- بعد سقوط النظام العنصرى- بما ناله من اضطهاد وقمع وتنكيل، ببساطة لأن الرجل كان مؤمنا بقضية، ويعرف أن عليه أن يدفع الثمن، وقد دفعه طائعا مختارا وبسعادة كاملة. إنه الفارق- مرة أخرى- بين الإيمان بقضية والمتاجرة بها.
كان نيلسون مانديلا واضحا فى مواقفه وحادا فى خياراته، لا يعرف اللون الرمادى، ولا حلول الوسط ولم يعرف للعصا منتصفا. لم يتردد يوما فى قول ما يعتقده، ولم يطالب أحدا أن «يتفهم موقفه» الصامت العاجز المتردد لأن أجهزة الأمن تتربص به، وقد كانت تتربص به فعلا، ولم يعقد اتفاقات ليتراجع عنها، ولم يبذل وعودا ليحنث بها.
لاحت أمام مانديلا فرص كثيرة للخروج من غياهب السجون ومغادرة وحدة وظلمة الزنازين، إلى قصور الرفاهية، عبر مساومة رخيصة تقضى بتخليه عن مناهضة النظام العنصرى، لكن الرجل لم يكن لديه سوى رد واحد وحيد لم يتغير «القضية ليست نيلسون مانديلا، لكنها قضية شعب ووطن»، على عكس من ارتضوا بالمساومات والصفقات من أجل كرسى فى البرلمان.
وعندما انتصر مانديلا وسقط النظام العنصرى، لم يقل مانديلا يوما أنه هو من انتصر، رغم أنه كان القائد الفعلى للانتصار والسبب الحقيقى له، لكنه كان- ولم يزل- يعيد الفضل للشعب «أنتم من انتصر»، واكتفى بفترة رئاسية واحدة، رغم أن لديه فى قلوب أبناء شعبه رصيدا من الحب والتقدير يكفى لبقائه رئيسا مدى الحياة.
وعندى أن الدرس الأهم فى مسيرة مانديلا، وبما يتقاطع مع ما جرى ويجرى فى مصر، يبقى هو درس المصالحة. الرجل لم يطرح فكرة المصالحة إلا بعد أن سقط النظام العنصرى، وليس قبله، وبعد أن أصبح من حق «المواطن الأسود» الترشح لمنصب رئيس الجمهورية، وبعد أن أصبح مانديلا نفسه رئيسا، وليس قبل ذلك.
القيمة الجوهرية لمبدأ «المصالحة» تكمن فى أن تصالح وأنت قادر على الانتقام، أما إن فعلت ذلك وأنت لم تزل فى مكان المجنى عليه والمُضطهد (بالضم) فالأمر عندها لا يعدو أن يكون أكثر من تنازل وخنوع.
كما أن المصالحة تختلف جوهريا عن «المساومة»، فالأولى (المصالحة) تعنى أن يعترف الجناة بما ارتكبوه فى حق الشعب من جرائم، ويعيدون ما نهبوه واستولوا عليه من ثروات الوطن، ويأخذ القانون مجراه، بينما الثانية (المساومة) هى صفقات تجرى فى الخفاء والغرف المغلقة، يعود بعدها الجناة إلى ما كانوا عليه، دون أن يعرف أحد ماذا جرى فى الظلام، ولا كيف جرى خلف الأبواب المغلقة. الأولى (المصالحة) تصبح ممكنة عندما تصل الثورة إلى الحكم، أما الثانية (المساومة) فهى وحدها المتاحة إذا ما تعرضت الثورة للسرقة.
عندما جاء نيلسون مانديلا لزيارة مصر عام 1992 وقف أما ضريح الرئيس جمال عبد الناصر يخاطبه «كنت هناك فى طرف القارة أشب على أطرف أصابعى حتى ترانى، عفوا لقد تأخر موعدة معكم 25 سنة» كان مانديلا وهو من هو، يشب على أطراف أصابعه لا لكى يرى عبد الناصر، لكن لكى يراه عبد الناصر، وكان اللقاء بينهما فى القاهرة قد تعذر بعد إلقاء القبض على مانديلا وإيداعه السجن.
وعندما حصلت جمهورية جنوب أفريقيا على حق تنظيم أول مونديال لكأس العالم فى القارة السمراء، وحصدت مصر «صفر المونديال» الشهير، قال مانديلا- وقد كان حاضرا إجراء القرعة فى العاصمة السويسرية- لو كانت مصر عبد الناصر باقية لم كنا تجرأنا على منافستها، بل كانت جنوب أفريقيا أول الداعين والداعمين للقاهرة.
إنها بعض دروس مسيرة وتاريخ مانديلا العظيم، وشتان ما بين الثورى المناضل وبين سارقى الثورات الذين يستعيذون بالله من ستينيات عبد الناصر.
عدد الردود 0
بواسطة:
Nadia
رجل سيخلده التاريخ
عدد الردود 0
بواسطة:
عبد الله
عبد الناصر صاحب النكسة ..... ابشع هزيمة عسكرية فى التاريخ