أظن أن الفيلسوف الألمانى الأشهر كارل ماركس «1818 - 1883» هو من سك لنا مصطلح «التناقض الرئيسى»، ثم أضاف على هامشه مفهوم «التناقضات الثانوية»، فى ذلك الزمان كان «التناقض الرئيسى» كما رآه مؤسس الاشتراكية العلمية، قائما بين رأس المال، والطبقة العاملة، بينما تكمن «التناقضات الثانوية» داخل كل من المعسكرين المتقابلين، فالرأسمالية ليست كتلة صماء، لكنها أنماط متعددة بتعدد أنواع الرأسمالية بين صناعية وزراعية ريعية.. إلخ، وبينها بالضرورة اختلافات تطفو على السطح أحيانا. بينما تعود التناقضات الثانوية فى المعسكر المقابل إلى طبيعة وملابسات العلاقة بين الطبقة العاملة وحلفائها من فقراء الفلاحين والفئات «الطبقة» المتوسطة. وقد تحدثت الكلاسيكيات الماركسية عن «التناقضات الثانوية» بتفاصيل كثيرة، فيها متى ولماذا تظهر صاخبة أحيانا، ومتى ولماذا تخبو متراجعة أحيانا أخرى. وهنا تحديدا نتوقف.
عند ماركس تتفجر التناقضات الثانوية، فى المعسكر الرأسمالى، وتظهر إلى العلن صاخبة، عندما تهدأ أو تتراجع التهديدات والمخاطر التى يمثلها «العدو» الكامن على الطرف الآخر فى معادلة «التناقض الرئيسى».
والذى حدث أنه خلال مائتى عام منذ رحيل مؤسس الاشتراكية العلمية تفجرت فى العالم براكين كثيرة، واجتاحته أعاصير متتالية، كان من بين نتائجها تعدد أنواع وألوان «الرأسمالية» بحيث لم تعد قاصرة فقط على تلك الأشكال التقليدية التى رصدها ماركس فى زمانه، فظهرت «الرأسمالية الدينية» - إن صح التعبير وجاز استخدامه - التى تسعى إلى إضفاء مسحة من القداسة على جريمة استغلال الإنسان للإنسان، عبر استثمار مزدوج فى البشر لتطويعه، وفى المجتمع لإخضاعه، ثم إعادة بناء الاثنين - الناس والدولة - وفق رؤى وأفكار تعيدنا إلى الوراء قرونا، وبما يفتح الأبواب على مصراعيها لمزيد من الأرباح، ومزيد من التراكم الرأسمالى، وبقيت نظرية «التناقضات» حية وحيوية وقادرة على استيعاب الجديد.
عندما خرج المصريون إلى الشوارع والميادين فى الجولة الأولى من الثورة «25 يناير - 11 فبراير 2011» كان من الطبيعى أن تصاب قوى الرأسمالية الدينية بالفزع والتخبط، ليس فقط بحكم القلق المشروع المرافق دائما لرأس المال من الحراك الجماهيرى، لكن أيضا لأن الحراك الجماهيرى استهدف نظاما كان على مدى أربعين عاما، بمثابة الراعى الرسمى والأب الروحى لتلك القوى، وقد وفر لها الأجواء الأنسب والظروف الأفضل للعمل والنشاط. لذا لم يكن غريبا أن يعلو صوت السلفيين بأحاديث المفسدة الكبرى والمفسدة الصغرى، ولم يكن شاذا أن يقف الإخوان فى منتصف الطريق، بين الامتناع عن المشاركة، والمشاركة بشكل شخصى، ثم بين الوجود فى الميدان وعلى طاولة عمر سليمان.
ويوم 11 فبراير 2011، وعندما سقطت السلطة، وليس النظام، كان «التناقض الرئيسى» حاضرا بقوة فى المشهد، بين نظام رأسمالى مستبد وفاسد يعانى سكرات الموت بعد سقوط رئيسه، وشارع يموج بحالة نادرة من مد ثورى، يسعى جاهدا للإجهاز على النظام بكل مكوناته، وهنا على وجه التحديد تقدمت «الرأسمالية الدينية» لتتصدر المشهد، وقد كانت مؤهلة لذلك، مستفيدة من دور لها فى الثورة كان محدودا ومرسوما بعناية، ومعتمدة على تنظيماتها المنتشرة فى أرجاء البلاد، ثم قبل ذلك وبعده بحكم وقوفها على مسافة ما من النظام، بدت معها وكأنها ليست جزءا منه.
وكذلك أمسكت «الرأسمالية الدينية»، بشرائحها المختلفة وقواها المتعددة، بزمام المبادرة، وتقدمت الصفوف لتقود «معركة» التعديلات الدستورية - التى اقترحها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ثم طرحها للاستفتاء يوم 19 مارس - من أجل فرملة حالة مد ثورى جارفة، والوقوف بها عند حدود ما جرى، سقوط سلطة وبقاء نظام.
وكان أن أصبحت «غزوة الصناديق»، هى البداية الشرعية لتحالف - مكتوب أو شفوى، مباشر أو غير مباشر - بين «الرأسمالية الدينية» بمظهرها «النقى»، والمؤسسة العسكرية بصورتها «الوطنية»، راح يقود البلاد فى فترة انتقالية جرى تفصيل خطواتها وفق مصالح الطرفين، وقد كشفت وقائعها أن جوهر وطبيعة كل منهما يختلف جذريا عما هو بادٍ من «شكل نقى» أو «صورة وطنية». وقد أفضت إلى استقرار السلطة بين يدى الإخوان، دون المساس بالعسكر ومصالحهم، وبقى السلفيون ينتظرون موقعهم فى كابينة القيادة الإخوانية.
والحاصل أنه مثلما كان للرأسمالية الدينية مصالح واحدة، فقد كان بين طرفيها أيضا تناقضاتها الثانوية، فكان طبيعيا أن كلا منهما راح يتربص بالآخر، بهدف الاستبعاد أو خوفا منه، وربما كانت الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية، هى أولى المحطات التى كشفت عن هذا التربص المتبادل، حينما قرر السلفيون منح أصواتهم للدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح، خوفا من استحواذ الإخوان على مقعد الرئاسة، ولهم - فى ذلك الوقت - أغلبية نواب مجلس الشعب. لكن الوقائع أخذت منحى مختلفا، بعدما أسفرت الجولة الرئاسية الأولى عن وصول مرسى وشفيق إلى الإعادة، وبعدما أصبح مجلس الشعب فى خبر كان، وبما دفع بالتناقضات الثانوية بينهما إلى خلفية المشهد.
وكذلك نجح التحالف الإخوانى السلفى فى اجتياز أزمات متعددة واجهت السلطة الجديدة، وفيها أزمة صياغة دستور إسلامى، تبادل الطرفان - فى لجنة كتابة الدستور - لعبة الشد والجذب، التشدد والمرونة، لتمرير صياغات بعينها ونصوص تخدم الطرفين معا، كشف بعض تفاصيلها الشيخ ياسر البرهامى فى فيديو شهير له، وفيها أيضا اجتياز أزمة إعلان 21 نوفمبر «الدستورى»، ثم تكلل نجاح التحالف الإخوانى السلفى فى تمرير الاستفتاء على الدستور.
عند هذا الحد بدا أن نشوة النجاح قد أسكرت الإخوان، وشبق التمكين أفقدهم القدرة على الرؤية، وما بدا فى معسكر الثورة (الطرف الآخر فى معادلة «التناقض الرئيسى») من ضعف وتراجع، أوهمهم بأن الأمور قد استقرت بين أيديهم، ولا حاجة لهم بحلفاء يشاركونهم القيادة. وهنا عادت التناقضات الثانوية لتحتل مقدمة المشهد، وراح السلفيون يداعبون «جبهة الإنقاذ»، ويتبنون مطالبها، وقد كانت فى مجملها تحمل اعترافا ضمنيا بشرعية الحكم، وشرعية القيادة، كان السلفيون يلوحون بورقة «الإنقاذ» بحثا عن دور أكبر فى مواقع القيادة، وأكثر تأثيرا فى صنع القرار، وكانت «الإنقاذ» من جانبها تسعى للحصول على نصيبها فى كعكة انتخابات البرلمان، بينما كان الإخوان مأخوذين بنشوة النجاح، مدفوعين نحو احتكار السلطة وفرض مشروع التمكين، بحيث لم يعد بوسعهم احتمال وجود مستشار سلفى بين طاقم مستشارى الرئيس، رغم شكلية المنصب، ومحدودية التأثير.
وكذلك فوجئ السلفيون، فى فبراير 2013، بإقالة الدكتور خالد علم الدين من منصبه كمستشار الرئيس لشؤون البيئة، وتخبطت ردود الفعل السلفية، حتى من علم الدين نفسه، الذى قال فى 18 فبراير «المهندس خيرت الشاطر مظلوم، ولا يتدخل فى عمل مؤسسة الرئاسة»، ثم عاد بعد أسبوع واحد «25 فبراير» ليعلن فى حوار له مع فضائية التحرير «إن المهندس خيرت الشاطر وحسن مالك، هما سبب استبعادى من الفريق الرئاسى».
لكن الإخوان لم يتراجعوا أو حتى يتوقفوا قليلا، لتبين مواقع أقدامهم، وكان توقيف ياسر البرهامى «أواخر مايو الفائت» فى مطار القاهرة، رسالة أخرى شديدة الوضوح، أن كابينة القيادة لم تعد تتسع إلا للإخوان وحدهم.
بيد أن هذا لا يعنى على الإطلاق أن الإخوان يعتزمون الإضرار بمصالح الرأسمالية المصرية، وفيها الرأسمالية الدينية، فالتحالف بينها أقوى من أن تهزه أو تؤثر فيه «تناقضات ثانوية»، بشهادة أنه ما أن انطلقت حملة تمرد، ولاقت ما لاقته من نجاح، حتى رد السلفيون بحملة «تجرد»، بصرف النظر عما حققته من إخفاق، وبشهادة التصالح مع كل رموز رأسمالية السلطة السابقة، فضلا على أن أحدا لا يتصور أن يمنح السلفيون أصواتهم فى أية انتخابات قادمة «رئاسية أو برلمانية» لغير الإسلاميين.
لقد صمت السلفيون صمت الموافق على كل ممارسات القمع والترويع والتعذيب التى مارستها سلطة الإخوان ضد الناشطين السياسيين، والمتظاهرين فى الشوارع والميادين، ولم يتعرضوا على التصالح مع رموز سلطة مبارك، وإذا ما عاد الزخم الثورى إلى الشارع مرة أخرى، وبات يشكل تهديدا جديا للسلطة «الإسلامية»، فسوف تتغير معالم المشهد الراهن تماما، ويعود تحالف «الرأسمالية الدينية» لسابق عهده، مدعوما برأسمالية سلطة مبارك، فى مواجهة ثورة لا تقف عند حدود تغيير الوجوه، ولا استبدال رأسمالية مستبدة بأخرى، وإنما تستهدف إسقاط نظام تغير شكله وبقى جوهره.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة