القاهرة- سنة 2025، تنهد المؤرخ بعد أن رشف رشفة متأنية من فنجان قهوته المرة وكتب يقول: بعد فشل ثورات يناير وفبراير ومارس وأبريل ومايو ويونيه ويوليه وأغسطس وسبتمبر.. نهض الشعب المصرى أخيرا من كبوته لاسترداد حقوقه المشروعة، فى ثورة 19 أكتوبر المجيدة.
خرجت جموع الأثرياء والمستثمرين إلى الشوارع بعد أن اندلعت شرارة الثورة فى حى الزمالك الراقى بالقاهرة، وانتفض إثر ذلك أثرياء مصر الجديدة، وجاردن سيتى، وأعيان المدن والأقاليم كلها تباعا..! حتى إن المظاهرات كانت تفوح منها روائح عطور ديور وشانيل..! وكانت ملابس المتظاهرين كلها من أرقى التوكيلات العالمية، ورفع المتظاهرون ثلاثة شعارات أساسية هى: "كافيار، استثمار، سيولة بالدولار"، وتأججت حناجرهم بهتافات: "واحد اتنين.. إلغاء الدعم فين؟!".. و"بالطول بالعرض.. هنجيب الفقرا الأرض"!! ولعب الجيش المصرى العظيم كالعادة، وللمرة العاشرة على التوالى دوره الوطنى المعروف، وانحاز للإرادة الشعبية، ولمطالب الجماهير التى خرجت من تلقاء نفسها تماما، مما أدى إلى نجاح الثورة، ووصول الحزب المصرى الرأسمالى الإقطاعى إلى السلطة ممثلا فى مرشحه لرئاسة الحكومة الدكتور نعيم عبدالغنى.
سادت حالة من الانقسام بين جموع الثوار فى البداية نتيجة للاشتباه فى وجود عناصر "مدنية" فى شجرة عائلة الدكتور نعيم، وساد فزع أكبر نتيجة الشائعات التى ترددت عن أن للدكتور نعيم أصولا فلاحية أو عمالية، لاسيما مع صغر سنه لتولى منصب رئاسة الحكومة، حيث لم يكن قد أكمل بعد عامه الثالث عشر.. بعد المائة، وكان الثوار منقسمين على ثلاثة آراء بخصوص رئيس الحكومة الجديد، مجموعة قالت إن البلد بحاجة إلى رجل عسكرى، ومجموعة قالت إن البلد بحاجة إلى رجل خبرة يتجاوز الخامسة والأربعين بعد المائة على أقل تقدير، أما المجموعة الثالثة فانحازت إلى رأى مختلف تماما، وقالت إن البلد بحاجة إلى رجل عسكرى وخبرة فى نفس الوقت..!!
بدأ الدكتور عبدالغنى بعرض برنامجه على جموع الأمة فى مؤتمر شعبى بنادى الجولف، وقد تضمن البرنامج عدة محاور، أبرزها:
1. القضاء على الفقر، من خلال اجتثاثه من منابعه، وإنهاء وجوده من أصوله، إذ إن القضاء على الفقراء يؤدى بالضرورة إلى القضاء على الفقر، وألمح إلى أنه من المستبعد القيام بإنشاء معسكرات تعذيب جماعية للفقراء كما اقترح البعض، ولكن من الممكن تعديل القوانين بحيث تلتزم الشركات الخاصة التى ستصبح هى المحتكر الوحيد لفرص السُخرة -المعروفة حركيًّا بفرص العمل- بوضع الفقراء من عامليها فى شروط عمل تشبه إلى حد كبير معسكرات التعذيب الجماعية، بدون إعلان ذلك صراحةً.
2. خصخصة كل الأصول العامة التى تمتلكها الحكومة، وخصخصة نهر النيل والأهرامات وقناة السويس وخصخصة الحكومة شخصيا، واستبدالها بمجلس لوردات لإدراة شؤون البلاد، يمثل فيه مندوب عن كل شركة كبرى يتجاوز رأسمالها السوقى مبلغا معينا يتم تحديده لحاقا، ويُسمى هذا المندوب "لورد" أو وزيرا، وتمثل فيه الشركات العابرة للقارات التى تعمل داخل البلاد بمندوبين عنها يتم تسميتهم بالسفراء من باب الإجراء الشكلى لا أكثر.
3. الضرائب هى قلب العملية الاقتصادية وعقلها ومقدمتها ومؤخرتها وغايتها العليا، ويلتزم مجلس اللوردات (الحكومة سابقا) بجمع ما يجود به أصحاب السيادة والمقام العالى المستثمرين وأعضاء اتحاد ملاك جمهورية مصر العربية من غير المتهربين من الضرائب، وتشجيع المتهربين على التصالح والتأكيد على عدم ملاحقة جنابهم، أو المساس بهم بسوء، حتى يتصالحوا من تلقاء أنفسهم، أو لا يتصالحوا إذا أرادوا، ويتم جمع هذه الضرائب أيضا من الموظفين والعمال والعاطلين عن العمل، والرجال والنساء والأطفال والأجنة على حد سواء، وتُدفع عن كل شيء مادى أو معنوى يتم استهلاكه من ماء أو هواء أو مشاعر وأحاسيس، وتتوجه هذه الضرائب للإنفاق على تحسين جودة ورفاه وخامة وإنتاجية مسلسلات رمضان وديكورات مكاتب السادة المسؤولين..!
4. الحريات العامة حق لكل مواطن يملك ما يدفعه فى مقابلها..! والتقاضى حق مكفول لكل من يملك ثمن العدالة..! ولكل مواطن حق الترشح للمناصب السيادية فى حال ما إذا كان يملك ما يدفعه للإنفاق على حملة ترشحه..! ويُستثنى من ذلك كل من يُشتبه فى أن له أصولا فلاحية أو عمالية، وكل من يفشل فى جمع توقيعات 30 جنرالا على الأقل من الموجودين بالخدمة وقت ترشحه.
5. يتم تشكيل لجنة لتعديل الدستور، على أن تعمل فى إطار المبادئ فوق الدستورية الثلاثة التى تم إقرارها بالإجماع من قبل هيئة الرقابة على النظام المصرية، المعروفة باسم "م.ا.د.ا.ت.س" أو: المجلس الأعلى للدبابات والاستثمار وتجارة السلاح، وتتضمن.. المبدأ الأول: الجنيه غلب الكارنيه، والمبدأ الثاني: معاك قرش تسوى قرش، والمبدأ الثالث: يا ناس يا شر كفاية قر وحقد طبقى، هريتونا..!!
..يقول المؤرخ: أدرك جماهير الشعب المصرى الحقيقى، أنهم استبدلوا الرأسمالية المتأنقة بالرأسمالية المتوضأة، ثم استبدلوا الرأسمالية المتوضأة بالرأسمالية المتعطرة..! وأن ما حدث فى 19 أكتوبر لم يكن أكثر من تحرك شعبى مصنوع ومدفوع بتحالف عسكرى رأسمالى لإجهاض الثورة الحقيقة التى كانت ستحتاج إلى وقت أكبر لتنضج من العمق الحقيقى للشعب، وأن من اختطفوا الثورة يرمون إلى إخضاع الشعب من جديد لذلٍ لا بداية له ولا نهاية، وسألوا أنفسهم: هل بعد فشل ثورات يناير وفبراير ومارس وأبريل ومايو ويونيه ويوليه وأغسطس وسبتمبر وأكتوبر.. من الممكن أن نثور من جديد؟ !
هذا هو بالضبط ما حملته الصفحات التالية من كتاب التاريخ.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
مهندس/جمال عبد الناصر
إنت محتاج أجازه ياصديقي