طوال سنوات حكم الرئيس المخلوع (حسنى مبارك) بقيت جماعة الإخوان «جماعة محظورة» لا تتمتع بأى وضع قانونى، وبصرف النظر عن الملابسات التى أدت إلى أن تكون الجماعة «محظورة» لكن «علنية»، فقد استثمرت الجماعة هذا الوضع بأفضل ما يكون، فحظيت بتعاطف قطاعات واسعة من المجتمع، باعتبارها جماعة دينية مضطهدة، وناس «بتوع ربنا» تلاحقهم الأجهزة الأمنية ويحجب عنهم النظام شرعية الوجود، كما توافقت معظم القوى السياسية، وفى القلب منها اليسار، الماركسى والقومى والناصرى ، على حق الجماعة فى تقنين وضعها، وأظن أن قاعات المحاكم مازلت تحتفظ بصدى أصوات نبيل الهلالى وعصمت سيف الدولة وعبد الله الزغبى، وكثيرين غيرهم، مترافعين دفاعا عن حق الجماعة فى الوجود الشرعى والقانونى.
ومنذ 12 فبراير 2011 انفتحت الأبواب على مصراعيها أمام الجماعة لكى تقنن وضعها وتكتسب حق الوجود الشرعى والقانونى، ثم اتسعت الأبواب عندما أصبحت الجماعة تحكم مصر، وتعالت الأصوات مطالبة بضرورة تقنين وضع الجماعة، وإنهاء هذه الحالة الشاذة التى جمعت بين شرعية الوجود الغائبة وعلنية الحضور الساطعة.
لكن الجماعة، وعلى مدى ما يقرب من عامين ونصف العام (12 فبراير 2011- 30 يونيو 2013) صمت أذانها، ورفضت بإصرار مريب توفيق أوضاعها، وانصياعها للقانون، حتى عندما لاح فى الأفق أن القضاء على وشك أن يصدر حكما بعدم شرعية وجود الجماعة، بناء على قرار مجلس قيادة ثورة 1952 الذى قضى بحلها، كان أن الجماعة، وقد كانت تحكم البلاد وقتئذ، ارتأت أن تحتال على القانون، بدلا من أن تنصاع له، وأشهرت –فى 24 ساعة- هيئة أخرى باسم «جمعية الإخوان المسلمين»، فكانت السابقة الأولى فى كل تواريخ العالم، أن جماعة سرية غير قانونية تحكم بلدا، ثم أنها تحتال على القانون حتى لا تقنن وضعها، ومرد ذلك أن الجماعة التى تحلم بما تسميه «أستاذية العالم» تضع نفسها فوق الدولة وفوق قوانينها.
ولعلى أجزم بيقين – الآن على الأقل - أنه لو كان الرئيس المخلوع حسنى مبارك قد منح الجماعة حق توفيق أوضاعها قانوينا، لكان قد وضعها فى مأزق نادر الحدوث، جماعة تستعطف المجتمع لأنها محظورة ومحجوبة عنها الشرعية، ليس بوسعها، ولا هى تريد أن تقنن وضعها وتعمل فى نور القوانين، ببساطة لأن التقنين يؤدى بالضرورة إلى هدم الهيكل التنظيمى للجماعة، وإعادة بنائه وفق قانون الجمعيات الأهلية، الذى لا يعرف ولا يعترف بهيكل تنظيمى يتضمن مكتب إرشاد ومجلس شورى ومكاتب إدارية ومناطق وشُعب وأُسر، كما أنه (أى قانون الجمعيات الأهلية) لا يعرف ولا يعترف بجمعيات تمثل «شركة اقتصادية» ولا هيئات تعمل باعتبارها «رابطة علمية» ولا مؤسسات ترى فى نفسها أنها «هيئة سياسية» ولا منظمات تقول إنها «جماعة رياضية»، وهى بعض الصفات التى وصف بها حسن البنا الجماعة فى رسالته إلى مؤتمرها الخامس ، فضلا عن أنه ليس من حق مؤسسات العمل الأهلى أن يكون لها فروع خارج حدود البلاد.
صحيح أن قانون الجمعيات الأهلية عليه الكثير من الملاحظات حيث أفرغت بعض مواده المجتمع المدنى من مضمونه، وفرضت عليه قيودا أمنية، إلا أن الصحيح أيضا أنه ليس بين هذه الملاحظات ما يتعلق لا بالبناء الهيكلى للمؤسسة ولا بقطع الصلة نهائيا بين العمل الأهلى والعمل السياسى ولا بضرورة أن تكون مؤسسات المجتمع المدنى غير هادفة للربح ، ولا بحتمية وضعها تحت رقابة الجهاز المركزى للمحاسبات.
ونسف الهيكل التنظيمى وإعادة بنائه من جديد يعنى أن تتخلى الجماعة عن أهدافها الأساسية، وفيها الوصول للسلطة، وحلم الخلافة ، ووهم أستاذية العالم، وفيها أيضا أن مصر مجرد ولاية (أو محافظة) فى دولة الخلافة الوهمية وليست دولة مستقلة ذات سيادة ، وفيها ثالثا أن تتوقف الجماعة تماما ونهائيا عن ممارسة العمل السياسى، وتكشف مصادر تمويلها وأوجه إنفاقها.
وكذلك كانت المفارقة، حجب الشرعية عن الجماعة، أراده نظام مبارك عقابا ومحاصرة، فإذ به عند الجماعة هدية ومكافأة.
وفى المحصلة نجد أنفسنا أمام جماعة مارقة ، ليست مجرد دولة داخل الدولة، على خطورة ذلك، لكنها دولة فوق الدولة ، بل هى الدولة، حيث تقف على النقيض تماما من فكرة الدولة بما فيها من مؤسسات وقانون (لماذا صمتت الجماعة بقياداتها وقواعدها على طز فى مصر؟) جماعة لا تعرف ديمقراطية ولا تعترف بالأخر، جماعة اختلفت مع النقراشى فاغتالته، واختلفت مع الخازندار فاغتالته، واختلفت مع عبد الناصر فحاولت اغتياله، واختلفت مع السادات فتولى أحد أذرعها اغتياله، وهى الآن تختلف مع الشعب بأسره ولن تتردد فى قتله، بل هى تفعل ذلك. جماعة لا تريد أن تفيق من أوهامها، وترى فى أخطائها، وقد وصلت إلى حد الجرائم، حقا طبيعيا لها، وهى بذلك قد حكمت بنفسها على نفسها.
عدد الردود 0
بواسطة:
د.منتصر عبد الباقى
مقال رائع
تحليل رائع للواقع ووهم الحماعة واخطائها