منذ «سقوط حكم المرشد» فى 3 يوليو الماضى أصبح موضوع «الإقصاء والدمج» هوحديث الساعة، وراح يتكرر فى رتابة وملل وكأننا نستمع إلى اسطوانة مشروخة، لا يصدر منها أو عنها سوى شعارات عن ضرورة الدمج، وخطورة الإقصاء، أو على -الجانب الآخر- شعارات عن ضرورة الإقصاء وخطورة الدمج. كل فريق يسوق مبرراته وحججه. لكن أحدا لم يتوقف عند مفهوم الإقصاء وحدوده، ولا أمام معنى الدمج وضروراته.
وفى حديث الإقصاء والدمج، يبدو لى -أولا- أنه ليس بوسع أحد أن يقصى أحدا، حيث كل فريق قادر بما لديه من قدرة على قراءة الواقع، ورؤية للتعامل معه، أن يفرض نفسه على المشهد، ويختار لنفسه الموقع الذى يستحقه، قى القلب منه أو على أطرافه أو مهملا فى زوايا المجتمع. ومن المجرد إلى الملموس، أظن أنه ليس بوسع أحد أن يقصى حزب العمال البريطانى عن اللعبة السياسية فى بريطانيا، تماما مثلما لا يمكن لأحد أن يسحب الحزب الشيوعى الأمريكى من أطراف المشهد السياسى الأمريكى، إلى القلب منه.
لكن على الجانب الآخر هناك من القوى من يعتقد أنه قادر على إقصاء الجميع من المشهد واحتكاره لنفسه. بل يصل الأمر عند البعض إلى حد الاعتقاد أن احتكار المشهد السياسى وإقصاء الآخرين جميعا، هو جزء جوهرى من رسالته التى جاء بها إلى المجتمع والناس. هذا ما فعله هتلر فى ألمانيا عندما وصل إلى السلطة عبر صندوق الانتخاب، ثم حدث بعد ذلك أن اقصى كل القوى السياسية ليحتكر وحده المشهد السياسى الألمانى، فقاد بلاده –والعالم أجمع- إلى جحيم حرب عالمية، ثم تبين لاحقا، ربما بعد انتحاره مهزوما، أن ما فعلته النازية، لم يكن إـقصاء لأحد، إنما كان، فى جوهره وحقيقته، إقصاء ذاتيا فعلته بنفسها فى نفسها.
وفى المشهد المصرى شيء شبيه بما جرى فى ألمانيا الهتلرية، حيث ما انفتحت الأبواب على مصراعيها –بعد 25 يناير 2011- أمام القوى الإسلامية للاندماج فى المجتمع، تحت مظلة القانون وفى إطار شرعيته، حتى عزلت نفسها بنفسها عن كافة القوى السياسة والاجتماعية، والحركات الشبابية، واختارت –طائعة مختارة- أن تقف وحدها فى مواجهة الجميع، وكان الاستفتاء على التعديلات الدستورية (19 مارس 2011) شاهدا حيا، وقد أحالته القوى الإسلامية وفى القلب منها جماعة الإخوان المسلمين، إلى معركة دينية، وقفت فيها وحدها ضد كل من قال لا لتعديل الدستور، ثم انتهت بغزو صناديق، كانت تعبيرا فاضحا عن نهج إقصاء الجميع الذى تؤمن به هذه التيارات.
وكذاك بقى الحال حتى سقوط «حكم المرشد»، الإخوان يواجهون كل قوى المجتمع، دون استثناء، يسعون بدأب لاحتكار المشهد السياسى وخلفيته، يوزعون بكرم حاتمى قائمة طويلة من اتهامات لا تستثنى أحدا، إن بدأت بالأجندات والعمالة للخارج والفلول، لا تنتهى عند التكفير ومحاربة الإسلام. ولم يكن ما طرأ على موقفهم إبان جولة إعادة الانتخابات الرئاسية، سوى طارئ عابر، فرضته ملابسات الموقف، الاستثناء الذى يؤكد القاعدة، وما ان حققوا ما أرادوا، حتى ارتدوا عن الاستثناء وعادوا إلى القاعدة.
والذى حدث أنه عندما اعتقد الإخوان أنهم اقصوا الجميع، واحتكروا المشهد وخلفيته، إنما كانوا فى واقع الأمر يقصون أنفسهم بأنفسهم، فى إعادة إنتاج لمشهد ألمانيا الهتلرية خلال ثلاثينيات القرن الماضى.
ولئن كان صحيحا أنه ليس بوسع أحد أن يقصى أحد، وهو صحيح بالفعل، فإنه ليس بوسع أحد أن يجبر أحدا على الاندماج، وقد قامت عقيدته ومذهبه على يعتقده إقصاء للجميع، بينما هو فى جوهره إقصاء ذاتيا.
وفى حديث الإقصاء والدمج –ثانيا- يبدو لى أن هناك تجاهل لطبيعة وماهية القوى التى يريد البعض منا إقصاءها، ويسعى بعضنا الأخر لدمجها.
أظن أنه ليس من الوارد ولا من المنطق أن يطالب أحد بضرورة دمج النادى الأهلى فى العملية السياسية، ولا أن يحدثنا أحد عن خطورة إقصاء جمعية بنت النيل لتعليم النساء فى درا السلام عنها (العملية السياسية)، كما أن كارثة تزاوج رأس المال بالسلطة، وقد تجلت صارخة فى سنوات حكم مبارك الأخيرة، تغنينا عن استعادة مخاطر إدماج رجال الأعمال فى العملية السياسية، وتفرض بالضرورة إبعادهم تماما عن المشهد السياسى، دون أن يدعى أحد أن هذا نوع من الإقصاء. والمعنى أن حديث الإقصاء والدمج لا يجب أن يكون، ولا يمكن أن يبقى، حديثا عائما غير محدد المعالم، هائما لا يعرف من أين يأتى وإلى أين يذهب.
وكذلك يستحيل إقصاء النادى الأهلى عن المجتمع الرياضى، وإبعاده عن المسابقات الرياضية، ومن حق جمعية بنت النيل الاندماج فى المجتمع المدنى، ولا يجوز لكائن من يكون أن يقصى رجال الأعمال عن مجتمع المال والصناعة والتجارة.
لكن إذا امتد الخط على استقامته، وصولا إلى جماعة الإخوان المسلمين، فسوف تتبلور أمامنا مشكلة قد تلامس حدود المأساة، حيث لا يعرف أحد أين وكيف يمكن دمج جماعة متعددة الوجوه والنشاطات؟ وما إذا كان رياضيا أم خيريا أن اقتصاديا أم دينيا أم سياسيا أم علميا وثقافيا؟ لقد اعتبر مؤسس الجماعة –فى رسالته إلى مؤتمرها الخامس- أن جماعته عليها أن تمارس كل هذه الأنشطة معا.
لكن المشكلة سرعان ما تتجاوز حدود المأساة لتصل إلى ذروتها عندما نعرف بيقين أن للجماعة ميلشياتها المسلحة، أى أنها –إضافة إلى كل ما سبق- لديها قواتها المسلحة الخاصة بها، وبما يعنى أننا لم نعد أمام جماعة حائرة بين الإقصاء والدمج، لكننا بصدد «دولة الإخوان» فى مواجهة «دولة مصر»، وبما يعنى أن الدمج فى هذه الحالة قد يكون نوعا من الوحدة الاندماجية بين « الدولتين »، وهو ما أظنه صعب التحقيق، لأن «دولة الإخوان» لن تقوم لها قائمة إلى على أنقاض الدولة المصرية.
أنا بالتأكيد لست ضد دمج الإخوان، لكن قولوا لنا على وجه الدقة :أين وكيف؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة