حـسن زايد يـكتب: رجال من ذهب

السبت، 11 أكتوبر 2014 10:05 م
حـسن زايد يـكتب: رجال من ذهب خط بارليف

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أنا لست بصدد تسطير مقالة، فالمقام فوق المقالات، وفوق الكلمات. ولن أكون أفضل من دافع وذاد فى مجال الدفاع والذود، فهناك من هو أفضل وأبلغ، ويملك من الحجة والبرهان الساطع ما يدمغ. إلا أننى وجدت نفسى مدفوعاً رغماً عنى للهمس فى أذن شباب اليوم الذى لم يعش، ولم يشاهد، ولم يسمع، ولم يقرأ عن هؤلاء الرجال الأفذاذ الذين قدموا إلينا من عالم الأساطير الإغريقية القديمة، ليعيشونا ملحمة من الملاحم التى يتوقف عندها التاريخ فاحصاً، ودارساً، ومستخلصاً العبر.

وأنا أقول ذلك باعتبارى عشت وعايشت طرفاً من هذا التاريخ. لقد عشت لحظة الانكسار فى يونيه 1967م، وقد كنت طفلاً لم أجاوز السابعة من عمرى، لقد أدركت بأن إسرائيل فى طريقها لاحتلال القاهرة، والقبض على زعمائنا وإعدامهم، وعودة الاحتلال الإنجليزى مرة أخرى، وانقضاء أمر الثورة وانفضاضها. ففى أول أيام الحرب رأينا بأم أعيننا رؤيا العين الطيران الإسرائيلى وهو يمرق صارخاً فوق رؤوسنا، كأنه يقصد إرعابنا. ثم تدك مسامعنا أصوات القصف، وانفجارات القنابل، فتهرب أرواحنا من أجسادنا فرقاً، خشية أن يصيبنا الدور.

عشناها ليالى سوداء عندما كان يُنادى على الناس بإطفاء الأنوار، فلا نجد ملاذاً يحمينا سوى جنح الظلام. ثم تنطلق مدفعيتنا بالطلقات الكاشفة، لتضىء حلكة الليل البهيم ببقع ضوئية سرعان ما يخبو نورها، وهى تهوى إلى الأرض.

كان الطيران الإسرائيلى يمرح فى سمائنا، ويداعب أطفالنا، دون رادع بعد أن تحطمت طائراتنا فى مرابضها ـ وإن كان هناك رجال، أقلعوا بطائرتهم من على ممرات مضروبة، وهم يدركون أنهم لن يجدوا ممرات يهبطون عليها، ليشتبكوا مع طائرات العدو ذوداً عن حياض الوطن ـ وأصبحت مصر كلها أرضاً مكشوفة، عارية، منتهكة، مسلوبة الإرادة. وعندما أذاع التلفزيون بيان التنحى بكيت، كمن أصابه اليتم فجأة، وقد وجد نفسه وحيداً شريداً بلا مأوى، ولا ملاذاً.

بكيت لأنى شعرت ـ وأنا طفل ـ أن ذلك ليس وقت التنحى والحساب، وإنما وقت الصمود، والتصدى ولو بالأجساد عارية. هؤلاء الرجال الذين أحسبهم من ذهب أو ماس، ضربوا فى سيناء، نقولها هكذا بسهولة ونحن نضطجع على أرائكنا فى البيوت. نقولها ونحن لا ندرك ما تعرضوا له من عذابات: عذابات جسدية، ونفسية، وفكرية.

لقد دك الطيران الإسرائيلى مواقعهم وأسلحتهم ومواردهم وأجسادهم بغتة. رأوا بأم أعينهم مواقعهم وهى تشتعل، وأسلحتهم وهى تعطب، ومركباتهم ودباباتهم وهى تحترق، وطعامهم ووقودهم وماؤهم وقد التهمته النيران. وجدوا أنفسهم عرايا من كل شىء، وفوق هذا وذاك، رأوا بأم أعينهم أشلاء زملائهم وقد مزقوا كل ممزق، رأوا رأساً بلا جسد، وجسداً بلا رأس، وذراعاً بلا جسد، وجسداً بلا ذراع، وجدوا قطاع الغيار البشرية وهى تفترش رمال سيناء لا تجد من يدفنها ويواريها التراب. منهم من مات جوعاً، ومنهم من مات عطشاً، ومنهم من مات نزفاً. منهم من أكل الأفاعى والفئران، وبل ريقه ببوله. يختبىء بالنهار من نيران طيران العدو ومطارداته، ويلوذ بالظلام متسللاً فى اتجاه يظن أنه سبيل النجاة، فمنهم من اهتدى، ومنهم من ضل السبيل، وبدلاً من أن يفر من الموت، يفر إليه دون أن يدرى. ومن اهتدى منهم كان عليه أن يعبر القناة سباحة فى الليل حتى لا يلتقطه أحد الجرذان الصهيونية المتربصة. كل ذلك والقلق ينهشه على أمه وأبيه، وزوجه وبنيه، على خطيبته أو حبيبته أو جيرانه وأقرانه. هل ذلك يعد عند المصرى ـ الإنسان ـ محط سخرية واستخفاف، أو مصدراً للشماتة والتشفى؟. فأى نفوس تلك التى تنطوى على مثل هذه المشاعر والأحاسيس؟. أنا أفهم أن يمارس البعض لوناً من ألوان جلد الذات، كرد فعل طبيعى يقع تحت وطأة مثل تلك الضغوط، ولكن ذلك فى حينه، وليس بعد عقود من وقوعه. ومع ذلك انتفض المصرى من تحت الرماد، ولعق جراحه، وصرخ فى قادته المنهزمين، ليس كما نصرخ اليوم بسقوطهم، ولكن برفض الهزيمة، ورفض التنحى، والمطالبة بالحرب. كيف سيكون ذلك ليس شأنه ؟. ما عليه هو أن يتبرع من قوت يومه ـ على قلته ـ للمجهود الحربى. لم يعلن الاستسلام، ولم ينقلب على قادته، ولم يكفر بوطنيته، أو يبيع أرضه وعرضه فى سوق النخاسة الدولية.

كان على القادة أن يلملموا الشتات والأشلاء، ويرمموا النفوس والقلوب، ويضمدوا الجراح الجسدية والنفسية، ويبعثوا فيه الروح المصرية من جديد.

وبدأت حرب الاستنزاف بعد شهور قليلة من نكسة 1967 م. وبدأ الرجال الماسيون فى عبور قناة السويس، أولئك الرجال العظام الذين مهدوا لحرب أكتوبر بعملياتهم المستحيلة سواء فى عمليات الإغارة، أو نصب الكمائن لقوات العدو فى الضفة الشرقية للقناة، إلى حد ذهاب وزير الحرب الإسرائيلى المنتصر إلى وصفهم بـ: "الأشباح". بالطبع هذه العمليات لم تكن نزهة فى حديقة، ولكنها عمليات تمت بالعرق والدم والدموع، مع عدو متربص لاينام.

كل ذلك كان جزءا من كل، فقد أمضى القادة الأيام والليالى بعيداً عن أهلهم وذويهم وهم يعيدون بناء القوات المسلحة، ويؤهلونها وفقاً لأزمنة تحطم الأزمنة القياسية، وتصل بها إلى أزمنة تقترب من الأزمنة الصفرية قياساً على ما كان يتطلبه هذا العمل من وقت. إعادة البناء للجندى والمعدة، من خلال التخطيط والتنظيم والتنسيق والتوجيه والرقابة، وخلق بيئة تدريبية تماثل البيئة التى تمثل مسرح عمليات المعركة الفعلية، كل ذلك فى إطار خطة خداع استراتيجى متكاملة، وغير مسبوقة، واضعاً فى الاعتبار أنك موضوع تحت الميكروسكوب فى كل حركاتك وسكناتك على مدار الساعة، من أجهزة مخابرات العدو، وأصدقائه، والمتعاونين معه من أجهزة دولية.

ولست بصدد استعراض وقائع المعركة فهى معلومة، ولا عوائق المستحيل التى كان من الممكن أن تحول دون التفكير فى خوض غمارها، فهى أيضاً معلومة، ولكن ما يعنينى فى هذا الأمر هو تسجيل أن هناك أناسا بيننا يزايدون على الدعاية الصهيونية فى التقليل من شأن انتصارنا المظفر، ومحاولة النيل منه،على اعتبار أن ذلك يمثل تتفيهاً للدور الذى لعبته العسكرية المصرية، وتهميشاً مخلاً لدورها الفاعل، عل ذلك يفت فى عضد رجالاتها، وينال من ثقتهم فى أنفسهم وثقة الشعب فيهم .

وقد لا أكون مبالغاً إذا قلت أن مخطط الشرق الأوسط الجديد، والفوضى التى تعم المنطقة حالياً ما هى إلا محاولة لعدم تكرار ما حدث فى حرب أكتوبر مرة أخرى، ولا يتأتى ذلك إلا بالإجهاز على الجيش العربى الأقوى، والإتيان عليه من القواعد بحيث لا تقوم له قائمة بعد ذلك. ومن يجارى الدعاية الصهيونية فيما تدعيه هو لا يعدو مشاركاً من حيث يدرى أو من حيث لا يدرى فيما تهدف إليه الصهيونية العالمية، وفى ذلك خيانة للوطن .

ومرة أخرى يبقى الجيش المصرى هو رمانة الميزان التى تحفظ للمنطقة توازنها وتماسكها ـ على ما هى عليه حتى الآن ـ فى مواجهة إعادة تقسيم المنطقة على أسس مذهبية وطائفية. ويبقى رجالات مصر، "رجال من ذهب".






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة