أرسل (م) إلى افتح قلبك يقول:
أنا زوج وأب فى منتصف الأربعينات، لى 4 أطفال أكبرهم فتاة عمرها 16 سنة، علاقتى بها كانت عادية حتى 4 سنوات مضت، لأنى كنت قد دخلت فى تجربة زواج بغير أمها فى ذلك الوقت، فضعفت علاقتى بها وبأخواتها وبالبيت كله لفترة من الوقت، لا أستطيع أن أنكر، لكنها وأخواتها لم يكونوا على علم بالسبب الحقيقى الذى جعلنى أبتعد عنهم هذه الفترة، لأن أمهم حرصت على ألا تخبرهم بما حدث حتى آخر وقت، ولكن البنت ذكية ولماحة، كما أنها كبرت وأصبحت تفهم أكثر من ذى قبل، وبالتالى فقد اكتشفت الأمر، وأخذت منى موقفا لم أكن أتخيله، ووصل الأمر مؤخرا إلى مواجهة قوية بينى وبينها، كانت أحد أسباب انفصالى عن تلك الزوجة الثانية، التى كانت علاقتى بها فى طريقها إلى الانتهاء عاجلا أو آجلا.
المشكلة أنى أشعر أن البنت أصبحت بعيدة عنى جدا، ودائما تتجنبنى ولم تعد توجه لى أى حوار، تتظاهر أمام الجميع أننا طبيعيان كأب وابنته، لكن الحقيقة غير ذلك، أنا الآن عدت لحياتى السابقة ولم يعد لى أى علاقة بغير أمها، لكنى أشعر أن هذا لم يشفع لى عندها، وأنا خائف عليها وعلى نفسيتها، وأريد أن أعيد المياه بيننا إلى مجاريها، ولكنى وبصراحة لا أعرف كيف؟.
وإليك أقول:
أريد أن أخبرك فى البداية أنى سعيدة جدا بهذه الرسالة، لأنه عادة ما تراسلنى الأمهات ليفهموا ويعرفوا أكثر عن نفسية أبنائهم، وعن طرق التعامل معهم وتربيتهم، ووسائل عبور المحن معهم وبهم، لكن حضرتك أول أب يرسل لى بخصوص هذا الأمر، لدرجة أنى أعتقدت أنه لم يعد هناك آباء مهتمون بشىء اسمه تربية بعد الآن.
سيدى.. التجربة التى مررتم بها صعبة، وحتما ستترك أثرا فى نفسية كل منكم حتى وإن كان أولادك لا يعرفون حقيقة الأمر، لكن مجرد اختفائك وبُعدك المفاجئ عنهم وعن أمهم وعن بيتهم سبب لهم هزة وصدمة، أثار فى رؤوسهم علامات استفهام، وعلامات إنذار أيضا، تنذرهم بأن (بابا ممكن يرجع يختفى تانى فى أى وقت)، وسواء عرفوا السبب أو لم يعرفوه سيظل هذا الإحساس لديهم، ولو لفترة من الوقت على الأقل، أما بالنسبة لابنتك الكبرى فأضف إلى هذا كله أنها عرفت أن السبب امرأة أخرى، غير أمها وغيرها، فالبنت -خاصة أن كانت البنت الكبرى- غالبا ما تشعر نحو أبوها ببعض الملكية، والغيرة، لهذا فهى تصدم فيه تماما كصدمة أمها عندما تعرف أن (الحكاية فيها ست)، لهذا يجب أن تكون مؤهلا لأن الأمر لن ينتهى وتختفى آثاره سريعا، أما ماذا تفعل، سأخبرك.
أولا، كل علماء النفس والتربية يجمعون على أن أفضل شىء يمكنك فعله لأبنائك هو أن (تحب أمهم)، أو على الأقل أن تعاملها باحترام، فأول شىء تقدمه لصحة أولادك النفسية هو أن تشعرهم بالأمن والاستقرار، اللذان لا يأتيان إلا إذا شعروا بأن علاقة أبوهم وأمهم وثيقة وقوية ومتينة.
لهذا فإن أول شىء تفعله لاستعادة ابنتك وبقية أبنائك هو أن تحسن إلى أمهم، أن تعود إليها فعلا، جسدا وعقلا وقلبا، حتى وإن كان طلبا لود الأبناء، يجب أن يطمئن الجميع إلى أنك لم تعد لهم (صوريا)، ولكنك عدت ليشعروا بك وبحبك واهتمامك ورعايتهم، وأولهم وأهمهم أمهم.
ثانيا، سأحكى لك موقفا قرأته لأحد الكتاب الأجانب، كتب أنه أراد أن يشترى لابنته المراهقة هدية لعيد ميلادها ذات مرة، فاشترى كارت عليه بعض الورود وهو عائد من عمله فى عجلة من أمره من المكتبة القريبة من البيت، ثم وضعه فى ظرف ودس معه مبلغا كبيرا من المال، ولم ينس أن يكتب لها فى الكارت (مع حبى.. أبوكى فلان)، وتركه على وسادتها، متوقعا أن تغمره بقبلاتها وفرحتها صباحا، لأن المبلغ كان كبيرا.
لكن هذا لم يحدث، كل ما حصل عليه هو قبلة باردة على جبينه فى الصباح، أعطتها ابنته إياها، وهى فى عجلة من أمرها هى أيضا، ولم تنس أن تقول له بسرعة (شكرا).. فقط، فاندهش جدا، وتعجب من رد فعلها، أمع كل هذا المبلغ لم تفرح؟ ولم تتأثر؟ ولم تقدر حجم الهدية؟!.
ثم كان عيد ميلادها التالى، فقرر أن يغير هذه المرة، واستعد له من قبلها بفترة، فقد تابع مواعيد العروض الموسيقية التى ستقيمها الفرقة المفضلة لابنته، وعرف موعد حفلتهم فى المدينة التى يقيمون فيها، وذهب واشترى لها وله تذكرتان فى مكان مميز، ثم ذهب واشترى لها فستانا كان قد لاحظ أنه أعجبها فى إحدى المحلات لتحضر به الحفلة، ثم ذهب إلى إحدى المكتبات الكبرى وأنفق من وقته بعض الوقت، ليبحث عن كارت عليه صورة نجمها المفضل، ثم أخفى كل هذا حتى يوم ميلادها، فوضع لها الفستان والتذكرتان فى مظروف مع الكارت على وسادتها وذهب لينام ويحلم بالطريقة التى ستعبر له بها ابنته عن فرحتها صباحا.. ولكنه لم ينتظر للصباح هذه المرة، فما أن رأت البنت هذه الأشياء أثناء الليل إلا وقفزت من سريرها إلى سريره تحضنه وتقبله وعينيها تملأهما الفرحة والامتنان، مع أن الكاتب يقول إنه دفع مبلغا يقارب من ضعف ما دفعه هذه المرة فى العيد ميلاد السابق.. فهمت الفرق يا سيدى؟، الفرق هو الجهد، الاهتمام الصادق، الاستعداد للتعب فى مقابل إسعاد من أمامك بحق، وهذا هو ما تستطيع الوصول به إلى قلب ابنتك أو قلب أى شخص.
ثالثا، اجعلها تثق بك، اجعلها تشعر بأنك موجود من الآن فصاعدا لتسمعها أو تحل لها مشاكلها، أو حتى لتوصلها إلى حيث تريد، فكثير من أطفال اليوم لا يثقون فى آبائهم للأسف، من كثرة ما شاهدوا أن أمهاتهم هن من يقمن بكل شىء من أجلهم، فى غياب تام أو تغافل من الآباء، فنادرا ما تجد طفلا يعتمد على والده هذه الأيام على عكس ما كان يحدث مع جيلنا نحن مثلا، فقد كنا على يقين من أن الأب هو السند والظهر، حلال المشاكل، ومن سيساعدنا دائما عندما يعجز الآخرون.
كل هذا سيحتاج منك إلى جهد، وإلى وقت، وإلى صبر، لأنه لن يأتى بنتيجة فورا أو سريعا، لأنهم جميعا فقدوا الاطمئنان تجاهك، لهذا سيختبروك لفترة من الوقت قبل أن يعودوا ويرتاحوا إلى أنك عدت لهم ولن تذهب من جديد، ولكنى أؤكد لك أن شيئا من جهدك هذا لن يضيع، فالتربية وتكوين العلاقات مع الأبناء أمر تراكمى تماما كبناء حائط، يزيد ويعلو ويكبر مع كل طوبة تضعها فيه.
كما أنه أمر يستحق البذل والعناء حقا، فهناك فرق كبير بين معاملة الأبناء لآبائهم فى الكبر بدافع الواجب والمفروض، وبينه عندما يكون بدافع الامتنان والتقدير والعرفان بالجميل، لهذا أرجو أن تكون صادقا ومخلصا فى رغبتك فى استعادة علاقتك بأبنائك، وألا يكون ذلك بشكل مؤقت بدافع شعورك بالذنب نحوهم، أو تكفير فورى عن بعدك عنهم مؤخرا.
الصفحة الرسمية للدكتورة هبة يس على فيس بوك:
Dr. Heba Yassin
د. هبة ياسين