البداية فى هذه اللحظة التى تعد أكثر اللحظات صدقاً وحقيقة، تلك الثوانى المعدودة بين الحياة والموت...
تُقص فيها عليك ملخص عمرك وتتناوب صور أحبتك واحدا تلو الآخر..
وتتقلب مشاعرك بين الهلع والخوف والحزن والشوق والندم.
وتتساءل أهذه هى أحرف النهاية؟
بعقل هذا الطائر الصغير كان يحدث كل هذا … حتى افترش الغصن الصغير له أوراقه لتحتضنه وتنقذه من أن يتحطم وينتهى إلى هذه النهاية الأليمة...
إنه لا يكاد يصدق أنه ما زال حياً يرزق.. يتنفس الهواء ويحرك جناحيه دون ألم.
كلمات الشكر لا تكفى وإن قيلت جميعها … وكل الوعود الصادقة لن توفى هذا الغصن حقه … ولا كرمه …
يكفى أنه أراد للعصفور البقاء حياً على الرغم من أنه لم يكن بينهما سابق معرفة …
بتحية ممزوجة بأعذب ألحان الشكر والامتنان …أقسمَ العصفور ألا يترك وصال هذا الغصن حياً، وأن يُدفن ميتا تحت ظله …
أقسمَ أن يزوره كل يوم يؤنس وحدته ويقص عليه الحياة التى حُرم منها الغصن ليهون عليه حياته التى قضاها وسيقضيها ثابتا إلى جذع شجرة ينال منها ما تقتسمه له من طعام وشراب.
يؤنسه إذا تساقطت أوراقه فى فصل الخريف وينظفه من قطع الثلج التى تتراكم عليه فى فصل الشتاء.
كل يوم كان يأتى صغيرنا ليوفى بنذره فيقص على الغصن كل ما يقابله فى يومه …
يحكى له عن سربه وعن أفراد عائلته...
يشرح له كيف استخرج الدودة من باطن الأرض وكيف تنازع هو ورفاقه عليها …
يحكى له كيف احتمى من المطر داخل شجرة عملاقة..
وكيف ودع أصدقاءه المهاجرين إلى الأماكن الأكثر دفئاً...
بدعوات أن تصحبهم السلامة فلا يصيبهم مكروه...
يوصيهم أن يتذكروه العام المقبل وأن يعودوا فى أقرب وقت إلى ديارهم …
حتى حان موعد هجرة الصغير...
ليقع أمام الاختيار الصعب...
هل ينجو بنفسه فيهاجر مع من تبقى من أسراب الطيور...
أم يبقى ليفى بنذره لغصنه المدين له بحياته …
لعله إن بقى سيفقد حياته فى ليلة باردة من الليالى القاسية القادمة …
بين كفَّتين رجحت أحدهما بصوت مشاعر العصفور … الذى اعتاد حديث الغصن..
وأحب قربه … ووجد فيه الملاذ عندما تحيط به كوارث الحياة.. والسعادة عندما يشدو له أغان لم ينشدها لغيره.. كان معه كما أحب دوما أن يكون.
كان على سجيته … لا يتكبر من أن يقول النكات السخيفة ليضحك الغصن.
ولا يكابر حين يقص عليه أحزانه وأسراره …
حكـى له عن عصفورته الرقيقة التى كان يتمنى أن تشاركه عشه …
وعن تقاليد العائلة التى حالت دون هذه الزيجة لأنها من فصيلة مختلفة...
فودعها حينما زفت لابن عمها...
كان يسمعه كل يوم شكواه وآلمه من والده الذى يحابى عليه أخاه الأكبر فيؤثره بكل شىء
حتى أنه أوصى إليه بعشه العتيق القوى ليكون سكنا له بعد موته...
كان يشكو إليه أمه التى تجعله يتكبد العناء بحثا عن الطعام ثم تقسم ما جمعه على إخوته
كل هذا والغصن صامت يعبر عن احتجاجه بحفيف أوراقه...
حتى تلاشت الكلمات بسقوط آخر ورقة...
فيجاهد ليميل بنفسه دون أن يقلق راحة العصفور...
” أَنِ اصْبِرْ”.. هذه كانت إيماءاته ووصاياه …
إنها العون له على كل ما آسى من ظلم ومجافاة …
أهذا لأنه كان أكثر إخوته اسمراراً وأقلهم ريشاً وأضعفهم بنية؟...
أهذا لأنه كان يجيب بصمت كل ما يلاقيه فلا ينتفض لنفسه ولا يصرخ فى وجه من يعتدى على حقه؟...
أهذا لأنه اشتهر بين الجميع جبانا … فأخذوا يتهكمون منه ويقللون من شأنه؟ …
محاولات إثبات نفسه غير المجدية وإعادة هيكلة كيانه غير المثمرة …
جعلته يتشبث أكثر بقرار قلبه.. فيبقى مواجها الموت كل يوم فى وطنه …
بين فروع غصنه …
مُؤثِره على عائلته التى ربما لن يلتقيهم مجددا
مودعا معهم كل الذكريات السيئة التى كانوا سببا فيها بطريقة مباشرة أو غير مباشره...
أيامه المعدودة القادمة هى فى الحقيقة الحياة كما تمناها …
وسط مكان ينتمى إلى كل شىء فيه …
مع غصن ألفه وتآلفه ليكون له العالم بأجمع …
سيعطيه ما لم تستطع عائلته أن تهبه له ذات يوم
سيعطيه الأمان حتى أن اشتد البرد فهو لا يخشى الموت … لا يخشى أى شىء.
حتى أتى شتاء هذا العام لطيفا على العصفور الصغير.
وانقضى سريعاً على خجل وعاد المهاجرون إلى ديارهم …
وعادت أسرة الصغير وقد ازدادوا فرداً جديدا … وازدادوا لابنهم حنيناً...
آملين أن يجدوه حياً يرزق كى يعوضوه عن قسوتهم وعن فراقهم الطويل..
عادوا وعادت معهم عصفورة صغيرة اختارتها له أمه...
ستبنى معه ذات يوم عشهم الصغير على هذا الغصن الصديق.
عصفور
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة