ناصر عراق يكتب: نجيب محفوظ.. إمبراطور الرواية العربية

الخميس، 11 ديسمبر 2014 03:25 م
ناصر عراق يكتب: نجيب محفوظ.. إمبراطور الرواية العربية نجيب محفوظ

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مَنْ منا لا يحب نجيب محفوظ؟، ومَنْ منا لم ينفعل برواياته أو بالأفلام المأخوذة عن هذه الروايات؟، فالرجل كان بمثابة الراصد الأول الأهم لطبيعة الشخصية المصرية على مر العصور، وأكاد أجزم أنك لا يمكن أن تفهم جوهر المصريين دون أن تنهل من أدب نجيب محفوظ، الذى نحتفل اليوم بمرور العام الثالث بعد المئة على ميلاده، فقد أطل على دنيانا فى 11 ديسمبر من عام 1911، وعاش بيننا حتى 30 أغسطس 2006، بعد أن ترك لنا عددًا من الروايات الساحرة ما إن أدركناها فلن نعجز عن فهم أنفسنا بعد ذلك أبدًا.

لقد لعب نجيب محفوظ دورًا رائدًا، امتد أكثر من نصف قرن، فى ترسيخ تقاليد الرواية العربية، منذ رواياته التاريخية الأولى التى صدرت فى الثلاثينيات (كفاح طيبة – رادوبيس)، حتى “قشتمر”، التى نشرت حلقاتها فى الأهرام عام 1988، (دعنا الآن من الحديث عن أصداء السيرة الذاتية وأحلام فترة النقاهة).

وفقًا لما ذكره الكاتب الكبير فى أحاديثه، فإن الهاجس الذى كان يؤرق جيله كله – عندما احترفوا مهنة الكتابة منذ أواسط الثلاثينيات – هو كيفية الحفاظ على حرارة اللغة العربية وتطويرها، فى وجه احتلال إنجليزى بغيض، يفرض لغته فى كل شىء، محاولا – بخبث – إزاحة اللغة العربية وإضعافها.

لذا، لا عجب أن يكتب نجيب محفوظ رواياته العديدة بلغة عربية رصينة، راسخة، لا عتمة فيها ولا ارتباك، بل تنعم بالقوة والوضوح، فضلا عن جمال العبارة وفرادتها. المدهش فى التجربة العريضة لكاتبنا الكبير، أنه لم يخرج فى رواياته من قاهرة المعز إلا قليلا، إذ دارت أحداث معظم أعماله الروائية الخالدة بين أحياء وأزقة القاهرة الفاطمية والمملوكية، فقرأنا “خان الخليلى”، “زقاق المدق”، و”الثلاثية” و”أولاد حارتنا”، و”الحرافيش”، ومن ثم صادقنا ناسها البسطاء، وأحببنا أبطالها الطيبين، وكرهنا الطغاة الظالمين، وتعرفنا إلى معالمها الأثرية البديعة.

الجريمة المستمرة

يجب أن نلفت الانتباه إلى أن هذه الروايات – وغيرها – ترصد بدقة بالغة حال المجتمع المصرى، خاصة القاهرة، فى الفترة الممتدة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث تتبع “محفوظ” بدأب شديد، ومتمتِّعًا بصبر حكماء القرون القديمة، التطورات السياسية والاجتماعية والفكرية التى كان يغلى بها المجتمع المصرى آنذاك “الثلاثية نموذج مشرق”.

المثير أن نجيب محفوظ امتنع عن الكتابة الروائية ستة أعوام كاملة، من عام 1952 حتى 1958، وقد فسّر هو الأمر بأنه بعد قيام ثورة يوليو ظن أن الأوضاع الاجتماعية المؤسفة – التى فضحها فى أعماله – سوف تتغيّر، وبالتالى لن تكون هناك حاجة إلى الكتابة الروائية مرة أخرى!، لكن الجميع فوجئوا عام 1959 بروايته الآسرة “أولاد حارتنا” تنشر فى حلقات بجريدة الأهرام، ونظرًا لجرأة الرواية التى حاول فيها نجيب محفوظ استلهام التراث الدينى وفق صياغة مبتكرة وعجيبة، فسّر بعض ضيّقى الأفق الرواية تفسيرًا خاطئًا، واتهموا الرجل فى دينه، بل وقاموا بمظاهرة توجهت إلى مبنى الأهرام، ليقذفوه بالحجارة!.

للأسف.. بلغت المأساة ذروتها، عندما أقدم شاب جاهل على محاولة اغتيال الأديب الكبير بعد أكثر من ثلاثين عامًا على نشر الرواية!، وقد نجحت هذه الحملة ضد حرية الإبداع، فى إصدار قرار من الأزهر الشريف بمنع طبع الرواية فى مصر!

لكن عندما فاز محفوظ بنوبل، التفت الناس إلى هذه الرواية المدهشة، خاصة وأن قرار لجنة نوبل أشار إلى تميّزها الخاص، ومن عجب، أن نجيب محفوظ نفسه، أجاب عندما سألوه عن مصير “أولاد حارتنا” أنه “يحترم قرار الأزهر”!

أرجو ألا يحسبن أحد أننا بصدد تقديم قراءة نقدية لروايات الرجل وإبداعاته، فهذا أكبر من طاقتنا، علاوة على أن أعمال الأديب الكبير حظيت طوال تاريخ عمره المديد بمئات الدراسات والأبحاث.

ثلاثية الدأب والجدية والتواضع

إننا نحاول بمناسبة ذكرى ميلاده أن نلقى الضوء – بسرعة – على التفصيلات والمحطات المهمة فى حياة الرجل، لذا.. أزعم أنه من المستحيل الحديث عن نجيب محفوظ من دون التوقف عند ثلاثة أمور أساسية، تُعدّ جوهر شخصية هذا الأديب الفذ: أولها الجدية التى تعامل بها نجيب محفوظ مع إبداعه، فقد ظل الرجل – فى بداية حياته – يكتب من دون أن يحظى بلذة النشر فترة طويلة، ومع ذلك لم يستسلم لغول اليأس، وواصل رحلته المضنية مع الإبداع، إلى أن انتبه إلى موهبته المتألقة بعضُ الناشرين.

أما ثانى الأمور الملفتة للنظر فى شخصية نجيب محفوظ فهو تمتّعه بمقدرة فائقة على الدأب والتنظيم المحكم لوقته وحياته، بحيث لا تنفلت منه الأيام من دون فائدة، فقد عمل فور تخرجه فى كلية الآداب جامعة القاهرة عام 1934، موظّفًا فى الحكومة حتى أحيل إلى المعاش، ومع ذلك حافظ على عادته المقدسة، المتمثلة فى كونه يغلق على نفسه باب مكتبه ليظل يكتب يوميًّا من الخامسة عصرًا حتى العاشرة مساء، باستثناء الخميس المخصص للقاء الأصدقاء، أما يوم الجمعة فللزيارات العائلية.

يبقى تواضعه المذهل الذى فاق كل خيال، والذى خلا من أيّة شبهة افتعال، ويكفى أن الأستاذ نجيب فور علمه بالحصول على جائزة نوبل، صرح بأسى، بأنه كان يتمنى أن يحصل عليها أساتذته طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم!.

حكايتى مع محفوظ


أذكر جيّدًا أننى التقيت الرجل ثلاث مرات فى حياتى: الأولى ونحن طلاب في أول المرحلة الثانوية عام 1976 عندما فتنتنا “الثلاثية” فذهبنا نبحث عنه، وعرفنا أنه يجلس فى مقهى ريش، وبالفعل رأيناه مع الإعلامى الراحل طارق حبيب، فنظرنا إليه مدهوشين ولم نجرؤ أن نقترب لنصافحه.

المرة الثانية كانت فى المسرح الصغير بدار الأوبرا عام 1991، عند الاحتفال بعيد ميلاده، وقد جلس الرجل فى الصف الأول، وقد حرصت أن أجلس خلفه مباشرة أتأمله وهو يتابع ما يقال ويضحك ويُعلّق بروح مرحة وقلب مسكون بمحبة للجميع، أما المرة الثالثة والأخيرة فكانت فى 18 نوفمبر 1998 فى فندق “موفنبيك المطار”، وقد جلست بجواره مباشرة نحو ساعة كاملة بحضور الفنان التشكيلى الكبير “وجيه وهبة”، ونحات إيطالى معجب بروايات صاحب نوبل، علاوة على المخرج الراحل توفيق صالح وعدد قليل آخر من المحبين والمريدين، فى هذا اللقاء الأخير بدا الزمن قد عامل الرجل بالتى هى أسوأ، فعطبت حاسة السمع أو كادت، وكلّ النظر وازداد الشرود، بصراحة أحزنتنى حالته، وقرّرت ألا أسعى للقائه مرة أخرى، ولأحتفظ فى ذاكرتى بصورته البهيّة أيام الأوبرا.

الإمارات تحتفل بمحفوظ

أذكر أيضًا أننى حين غادرت القاهرة إلى إمارة دبى فى يناير 1999 لأسهم فى تأسيس مجلة الصدى، التى يرأس تحريرها الشاعر والإعلامى الإماراتى الموهوب الأستاذ سيف المرّى، أنه كلفنى بإصدار كتاب – بشكل غير دورى – والذى حوّلناه بعد ذلك إلى “كتاب دبى الثقافية” الذى يصدر كل شهر ويوزَّع مجّانًا مع المجلة، وهكذا فكّرنا أن يكون باكورة إصدارتنا كتاب عن نجيب محفوظ، فأصدرنا كتاب (نجيب محفوظ.. قيصر الرواية العربية) فى ديسمبر 1999، ليكون تحية من الإمارات إلى الرجل الأكثر فرادة فى عصرنا.

لا بأس هنا من استعادة بعض ما كتبته فى مقدمة ذلك الكتاب: (هذا الكتاب الذى نهديه إليك فى ذكرى مولدك – أيها المعلم الكبير – ما هو إلا باقة ورد نرجو أن تقبلها من أبناء لك يعتزّون بموهبتك المتقدة ودورك التاريخى، فأنت شيخنا الذى علّمنا حب الأدب، وأنت الذى ألهب حواسنا بعشق الرواية وحلاوة القص، وأنت يا أستاذ نجيب من سحرتنا سيرتك الذاتية ودأبك المستحيل وتواضعك النبيل، وأخيرًا - وليس آخرًا – أنت ضوؤنا الساطع فى سماء الأدب العالمى.. ويا أستاذ نجيب “أسعد الله مساءك”).

أجل يا أستاذ نجيب.. لقد رحلت عن دنيانا قبل ثمانية أعوام، لكن إبداعك لم يمت.. فدعنا نقل لك.. كل عام وحضرتك طيب.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة