هل تستطيع أى كمية من المؤثرات مهما كانت حداثتها وجودة وتقدم تقنياتها أن تنقذ قصة سيئة قد بُنيت على الادعاء وتزييف التاريخ! هل من الممكن أن يقوم شخص ما أو كيان بإنساب بناء حضارة ما لفئة ليست لها أدنى علاقة بتلك الحضارة، وضرب الحقيقة الثابتة التى لا ريب فيها بعرض الحائط دون المبالاة بشرف ونزاهة النقل والسرد الصحيح الخالى من أى تدليس وتضليل! والأكثر من ذلك، هل من المنطق أن يقوم أحد بتكرار نفس الأكاذيب التى فُضحت بالفعل على مر السنين قبل ذلك من قِبل العديد من المؤرخين ذوى العلم المستفيض والمعرفة الخالصة، فضلا عن الجهات والكيانات ذات التخصص! كيف يمكن لأحد أن يؤسس لفكرة وادعاء قد تم نفيه بالفعل بأسانيد من تاريخ ودين هؤلاء المستفيدين نفسهم من ذلك الادعاء! بالطبع الرد البديهى على تساؤلاتى تلك سيكون... لااااااا، فما بنى على باطل فهو باطل.. ولكن المخرج ريدلى سكوت كان له رأيا آخر! أنا هنا لست بصدد انتقاد الشخص بقدر انتقادى لما يقدمه من عبث فاضح وفادح بالتاريخ، حيث إنه يهوى استخدام أكبر كم من المؤثرات البصرية التى يعتقد أنها التعويض البديهى والطبيعى عن التاريخ المعيوب والمُرقَّع، "إن جاز لى التعبير" الذى تتضمنه روائعه المزعومة! أتوقع ردود أفعال عدائية على كلامى هذا من قِبل مجاذيب "سكوت"، ولما لا؟! فتلك النوعية من المشاهدين تعودت على الجرعة البصرية الصارخة التى يحشو بها الرجل دائما أفلامه، دون البحث وراءه عن صحة وحقائق ما يطرحه! ناهيك عن تمجيد الرجل وفنه واعتبار ما يقدمه هو الأجود والأقيم، وللأسف معظم ما يقدمه الرجل يتنافى إلى حد كبير مع الجيد، فهو يفعل كمن يدس سُمَّاً فى عسل! وها يتحفنا "عنتيل" الترقيع التاريخى، وملك ملوك الأفورة والإفتعال بأحدث أعماله السينمائية التى ستسجل النسبة والجرعة الأكثر كثافة من التزييف التاريخى المخزى!
أتحدث عن فيلم Exodus: Gods and Kings.. "الخروج: آلهة وملوك".. والذى من المقرر عرضه ديسمبر الجارى، وهو ثالث فيلم تنتجه هوليوود يتناول "الخروج.
أتذكر عندما حدثنى أحد الأصدقاء المهتمين بالسينما والتاريخ اهتماما بالغا، عن أحد الكتب التى تطرح التاريخ كما ترويه السينما، وكان بعنوان: Past imperfect.. history according to movies.. "ماضى معيوب.. التاريخ كما ترويه السينما".. الكتاب يتضمن حوالى ٤٠ فيلما تاريخيا كما شوهدت على الشاشة، وكل فيلم متروك لمؤرخ متخصص فى الفترة التى تدور فيها أحداث الفيلم، وذلك حتى يستخلصوا المغالطات التاريخية، سواء أكانت بسيطة أو فجة. أعتقد أن لو كان فيلم سكوت هذا قد تم إنتاجه وعرضه قبل إصدار الكتاب لكان أول ما سوف يتصدره الكتاب لبشاعة ما يتضمنه من مغالطات وتزييف! ولكن لا بأس.. لابأس، فربما ينتبه محررو الكتاب لضرورة إنتاج جزء آخر منه "مخصوص" لسكوت! لحصر فيض مغالطاته التاريخية، فضلا عن تعرية حقيقة استسهاله الذى يُفقد أعظم أعماله "على حد زعم مهاوييسه" أكبر قدر من المصداقية لدى الجمهور الواعى والنقاد وزملاء مهنته أيضا! فماذا لو علِمتم على سبيل المثال لا الحصر أن أجود أعمال الرجل لا تخلو من تلك السقطات الساذجة! فهل يصح أن يتضمن فيلما عظيماااا رااااائعا باهظ الإنتاج محبوك الأحداث والتفاصيل كالمصارع" أيضا على حد زعم مهاوييس سكوت" على مشهد يرتدى فيه أحد الجنود خوذة مغولية يعود تاريخها للقرن السادس عشر الميلادى، فى حين أن أحداث الفيلم تدور عقب موت الإمبراطور "ماركوس أوريليوس" فى نهاية القرن الثانى الميلادى! بل والأفجع من ذلك هو ظهور منشورات مطبوعة فى الفيلم قبل إختراع مطبعة جوتنبرج بإثنى عشر قرن! ناهيك عن بعض السقطات التى لا يقع فيها مخرج مبتدئ كظهور أسطوانة غاز فى إحدى العربات الحربية المقلوبة، وظهور شخص من المجاميع وهو يرتدى سماعة أذن.. وغيرها من السقطات التافهة التى لا تغتفر. رجوعا للموضوع الأساسى الذى أريد توضيح، أو بالأحرى كشف ما به من تزييف للحقائق والتاريخ بشىء من التفصيل لمن لا يعلمون حقيقته خاصة الأجيال الجديدة التى تعتبر السينما المرجع الوحيد والأكثر صدقا لمعرفة التاريخ! الفيلم يرسخ فكرة بناء اليهود للأهرامات وخروجهم من مصر بأعداد هائلة مع النبى موسى بعد عبوديتهم وعملهم بالسخرة فى مصر! بالإضافة إلى التشكيك فى معجزة شق البحر وتصويرها على أنها حدثت نتيجة لزلزال وليست معجزة إلهية كما ذكرت الأديان السماوية الثلاثة! يالااااا العبث! أليس كل ذلك محض هراء!! ولم يتوقف الأمر عند ذلك فحسب، فقد وصل بسكوت التمادى ف التزييف فضلا عن العنصرية الشديدة، إلى أنه استعان بكل أبطال فيلمه (النبى والملوك والملكات) من أصحاب البشرة البيضاء، بينما كان العبيد والخدم وعامة الناس من الملونين، وذلك على الرغم من أن أحداث الفيلم تجرى فى مصر الواقعة فى إفريقيا وقبل دخول الرومان، فكيف للرجل أن يختار أبطال فيلمه من أصحاب البشرة البيضاء، على الرغم من أن المصريين القدماء كانوا من أصحاب البشرة السمراء! وردا على خزعبلات سكوت المطروحة بمنتهى التلاعب وتغيير الحقائق، إليكم الآتى:
١ - المغالطات التاريخية.. وأهمها على الإطلاق، عبودية بنى إسرائيل فى مصر، والتى ليس لها أساس من الصحة التاريخية، فمثلا، قدماء المصريين لم يكن لديهم أدنى مشكلة أو خجل فى رسم أسرى حروبهم أو تسجيل ذلك على جدران المعابد، بالعكس فهم كانوا يتباهون بذلك ولا يخجلون مثلا من رسم فرعون وهو يقوم بالقضاء على جيوش الأعداء والذين قد تم تربيط أيدى قوادهم خلف ظهورهم وركوعهم أمام الملك كنوع من أنواع العمليات التأديبية. فبالتأكيد لو كانوا يستعبدون شعب كامل ماكانوا خجلوا أبدا من تصوير ذلك مثلما تعودوا! فهم لم يقوموا بتصوير عبيد قط، سواء أجانب أو مصريين! ولا يوجد أى دليل تاريخى مادى على إستخدام العبودية فى أى عمل على أرض مصر! بالعكس، فقد أصر رمسيس الثانى فى معاهدة السلم مع الحيثيين أن تتضمن النصوص بند لإلغاء العبودية والرّق والتجارة فى الإنسان، وما وجده المنقبون وعلماء الآثار هو نصوص عقود بين الدولة والعمال على كل المشاريع القومية سواء أكان بناء معبد أو مقبرة ملكية..إلخ، وهذه العقود تنص على الأجور وساعات العمل والعطلات الرسمية وفى بعض الأحيان تضمنت أيضا شكر من الملك وممثليه للعمال المهرة الذين أنجزوا العمل بسرعة ودقة. بالطبع كثير منكم يعمل فى مجال "المعمار" بكل فروعها وجميعكم على دراية تامة بأن العامل إذا لم يكن مستريحا من ظروف العمل، توافر عنده الاستعداد الكامل لـ"كَروَتَة"! وحتما تكون نتيجة العمل غاية فى السوء، وحيث إن كل ما تركوه أجدادنا بالمعنى الدارج "شغل مايخرش الميه ومافيهوش غلطة" فهذا أكبر دليل على سعادة وارتياح العمال آنذاك، الأمر الذى لا يدع مجالا للشك فى أنه ليس "شغل عبيد"! وبالإضافة لذلك، فإن المصرى القديم فى نصوص مقابره حتى البسيط منها، كان دائما يفتخر بأنه اشترك فى عمل عظيم سواء معبد أو مسلة أو مقبرة ملكية، الأمر الذى يستحيل معه أن يترك المصرى هذا الشرف ليحظى به غيره، خاصة لو كانوا حفنة من العبيد! غير أن العمل على بناء الأهرامات والمعابد كان يتطلب تعليما طويلا وشاقا قبل أن تمس أيدى أى شخص حجرا لرصه أو تمثالا لنحته أو جداريات للرسم والنقش عليها، وبالطبع كل ذلك يتنافى مع جهل العبريين وانعدام خبرتهم لتنفيذه! فكانت أقصى قدراتهم لا تتعدى خلط بعض الطوب النى بالطين والقش لزوم بناء بعض أجران الحبوب أو المنازل الريفية "كما هو مذكور فى توراتهم". وبناء على كل ما سبق، فإن أى مشاهد بفيلم سكوت تتضمن بناء أهرامات أو رفع مسلات أو نحت تماثيل فهى عبارة عندأحلام يقظة وأكاذيب وتزييف مكتمل الأركان، ليس إلا ل "ـنفخ" صورتهم القومية المهترئة أمام العالم.
2- الحقبة التاريخية.. وفى ذلك سوف أستعين بأسانيد من التوراة نفسها، على الرغم من اختلافى واختلاف الكثيرين معها فى ظروف الخروج وحدوثه بالكميات البشرية التى ذكرتها. فلو فرضنا أن الخروج حدث فى عصر رمسيس الثانى (١٢٧٩-١٢١٢ ق م) كما يدّعون أو قبله بحوالى ٥٥ عام أى بعد نهاية حكم اخناتون (١٣٥٠-١٣٣٤ ق م) كما يدّعى آخرون، ولو أن ذلك كما تذكر التوراة حدث بعد ثلاثمائة عام من تولى النبى يوسف لوزارة مصر، أى أن يوسف عاصر الهكسوس وهو أمر منطقى، لأن الهكسوس كانوا شعبا من القبائل السامية ومن المنطقى أن تدخل قبائل رُحل سامية أخرى تستقر أثناء سيطرة الهكسوس على شمال مصر، أى أن يوسف كان فى مصر بعد سيطرة الهكسوس (١٦٦٣-١٥٥٥ ق م) أى أن أباه يعقوب الذى كان كهلا آنذاك عاش فى فترة نهاية الأسرات الثالثة والرابعة عشرة، أى أن النبى إبراهيم "أبو العرب والعبريين" كان على أحسن الظروف "وحتى لو قبلنا جدلا أنه عاش عمرا مديدا كما يدّعون"، فى فترة الأسرة الثانية عشرة أو الحادية عشرة، أى فى المملكة الوسطى (٢٠٤٠-١٧٨٢ ق م)!! فكيف لنا أن نصدق أن العبريين قد اشتركوا فى بناء الأهرامات فى الأسرة الرابعة (٢٦١٣-٢٤٩٨ ق م)! أى قبل ميلاد أبوهم بنحو خمسمائة عام!!
لن أطيل فيما يتعلق بالملابس والمبانى التى يحتويها الفيلم والتى من الواضح تماما أن مصمميها لم يكلفوا أنفسهم عناء الإطلاع على أى كتاب عن مصر القديمة، ناهيك عن الأسلحة الحديدية التى احتواها الفيلم وظهرت ف "التريلر" الخاص بالفيلم وبعض الصور الدعائية، والتى تُناقض الحقيقة التاريخية التى تنفى استخدام مصر للحديد والصلب حتى حكم "مرنبتاح" ابن رمسيس الثانى! فقد اقتصر إستخدام الحديد آنذاك على قواد الحيثيين فى الأناضول عندما كانت مصر لاتزال فى العصر البرونزى!
وعلى الرغم من كل الدراسات اليهودية "نفسها" التى أكدت أن الخروج من مصر لم يوجد له أى أثر، وبالرغم من التنقيبات المستفيضة فى صحراء سيناء عن تواجد شعب كامل لمدة أربعين عام إلا أنها لم تسفر عن وجود أداة أو نعل حذاء أو قطعة من إناء فخارى.... إلخ، ولكنها أسفرت فقط عن العثور على آثار كثيرة للبدو القدماء الذين سبقوا تواجد العبريين المزعوم. وبالرغم من كل ذلك، تصر هوليوود ومنتجيها الصهاينة على رصد مئات الملايين من الدولارات لصناعة ثالث فيلم عن الخروج بكم مرعب من المؤثرات وغسيل المخ! ولما لا؟! فإذا عُرف السبب بطل العجب، فهل يوجد سبب أهم من ترميم صورة دولة بشعبها قد باتت مهترئة أمام العالم أجمع نتيجة أفعالها الشنيعة.. ولذلك فلابد من تكرار قصتهم البالية "المفضوحة مقدما" وتقديمها مغلفة بغلاف أكثر لمعانا وزهوا مما سبقه!
وأخيرا... لست مجرد شوفينيا يغالى فى تعصبه لتاريخ وحضارة بلده على حساب آخرون، فأنا بهذه المقالة لست إلا ناقلا للحقائق والتاريخ الثابت "البديهي"ىالذى لا غبار عليها، ومدافعا عنه باعتبارى واحدا من ضمن الملايين المنتمين إلى تلك الحضارة وذلك التاريخ الذى تحاول هوليوود ومنتجيها السطو عليه لحساب كيان معين، يمنحه فيلم بهذا المضمون مبررا قويا لتحقيق أحلامه التوسعية من النيل للفرات كما هو مذكور فى (سفر الخروج ١٥:١٨).
وأود أن أوضح شيئا مهما وهو أننى بالرغم مما يحتويه الفيلم من تزييف للتاريخ، إلا أننى ضد منع عرضه فى مصر أو الدول العربية كما حدث مع فيلم "Noah" بل وأطالب بضرورة إجازة عرضه حتى يتسنى للمشاهد إدراك حقيقة ما يحتويه، فضلا عن الدراية الكاملة بالأهداف الكامنة وراء صناعة تلك النوعية من الأفلام ذات الإنتاج اليهودى والتى تضر بتاريخنا وتسطو على حضارتنا، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال توعية المشاهد بشكل غير مباشر من خلال حملات إعلامية وسينمائية حتى يعى المشاهد ماسوف يشاهده بنفسه وتُكشف الأكاذيب أمامه بعد ربطه بين ما تم توعيته به وما هو مطروح أمامه على الشاشة.
فرجاء.. تأملوا وتبيّنوا ما أمامكم جيدا، حتى تعوا.