إهداء إلى محمود درويش..
على هذه الأرض مايستحق الحياة..
لا يقلق الظلام الكتب الرابضة على المكتب ولا الأوراق والأقلام، ولا جسدى المشرب بسمرة مدفوعاً بنعومة داخل قميص النوم الأبيض الحريرى. فى الحقيقة إن الظلام ليس بإمكانه أن يقلق أحداً على الإطلاق.
يقولون إننى أحس وأنا نائمة إذا مادخل على أحد، فتنكمش ابتسامتى، وينعقد حاجباى، ويقولون أحياناً أننى ألفظ باسم الذى تجرأ واقتحم السكون فيرتعد ويتراجع على الفور.
وتتكاثر الأساطير حول مارا الجميلة ولا يسعنى وأنا واقفة فى شرفتى الصغيرة المواجهة لنهر إيتاجى، تحت الامتداد السماوى اللانهائى وشعاع الشمس خلف السحب البيضاء صعب الزيارة، إلا أن أقول: صباح الخير يا أصدقاء مارا، ألف الأفق كله داخل عينى بنظرة سريعة ولا أجد بدا من أن أقول تفضلوا على الرحب والسعة. فتسبقنى رياح فقط.
قال لى ديجو ذات مرة ونحن فى مطعم فى وسط المدينة:
ـ لماذا تنامين بشكل غريب؟ تتشبثين بالمرتبة فى عنف وتتصلب قدماك وتنفر عروقك ولا يسعنى أن أرى منك سوى شعرك المتحلق حول وجهك الصغير.
لم أعرف بماذا أجيبه.. تشبثت بلحظة صمت ورحت أداعب خصلة تموجت من شعرى بين السبابة والوسطى.
ـ صديقى ديجو، وأنت تنام هلى تدرى بأنك نائم؟، أنا لا أنام يا ديجو بل أعيش حياة متواصلة، لى بيت ومدينة على نهر الفردوس وحديقة أزهار كبيرة أرعاها كل صباح وأنا عائدة من عملى، لى حياة كاملة وأصدقاء عديدون.
ارتسمت على وجهه حينها علامات عدم الفهم والتفت أصابعه حول كأسه، يعانقنا الفراغ المنصوب بينى وبينه، توقفت إشفاقا ودفنت ابتسامتى فى كأس الشمبانيا، بينما أفرغ هو كأسه مرة واحدة فى حلقه وصعد إلى ساحة المطعم يصفق ويتلوى داخل أبواق الفالتز.
عندما يبدأ الليل فى استعادة رقعته المسلوبة قهراً، وتضىء السماء مصابيحها نجوماً تضوى خطوات اثنين تنحت الشاطئ، حينها تستيقظ المدينة كلها فى أصابع عازف بيانو أو فى أوتار التشيلو أو فى نفخة ناى فرعونى. قد أكون منفرطة على سريرى العاجى، ولا أستيقظ إلا عندما تخلد المدينة للسكون. يقول دييجو إنه ذات مرة وهو يتمشى على الشاطئ هو وخطيبته ماريانا، أنه رأى أحد الأطفال يتسلل إلى بيتى، صعد سلالم الشرفة فى مهارة ومد أصابعه إلى الباب الزجاجى المفضى إلى غرفتى مباشرة، لكنه رآنى وأنا أتقلب فى عنف، حتى انحسر ثوبى عن أجزاء من جسدى، فتراجع فجأة عن قراره وركض مذعوراً. "لماذا لا تهتمين بإغلاق الستائر عندما تذهبين للنوم؟ "
عزيزتى أندريا عندما رأيتنى آخر مرة ممدة على الشاطئ بقميص النوم الأبيض، حافية، كنت حينها قد تعرضت لغزو مفاجئ من شعاع قمرى مرق بغتة على الباب الزجاجى، فأيقظ الكتب من غفوتها وراحت تزمجر والأوراق تتقافز وتتداخل الحروف والكلمات تتشابك، استيقظت مفزوعة أربت على الكتب، هدأتها، ودفأت الأوراق بوشاح أزرق ألفه حول رقبتى عندما أخلد للنوم. لاشيء فى الغرفة غير الظلام، تنحيت جوار الستارة، لمحت طيف نور مرق على الشاطئ رأيته بعينى وأنا لا أكذب يا أندريا أنت تعلمين. جذبت المزلاج الزجاجى وهبطت الدرج وأخذت أعدو وأنا لا أرى شيئاً أتلفت يميناً ويساراً، كانت الخطوات تفقأ عيون الرمل، والهواء يغازل عينى ويبعثر الشعر.. فى الهواء. أندريا، لقد تبدد كل شيء حولى، وكان بى المستقر حافية على رمال ربوة تكاد تجثم فجأة على المكعبات الخشبية المتناثرة تكاد تطبق ظلمتها على كل الأضواء المتوهجة فى المدينة تكاد تصد الموج عن المرور مرة أخرى من هنا. ورغما عنى داهمنى شعور بالبكاء، بردانة أنا، بردانة وكأننى لن أدفأ أبداً، شبكت ذراعى حول كتفى وتمددت وأخذت الأفق داخلى.
السماء صافية تماماً، صافية من الغيوم ومن النجوم ومن القمر. صديقاى دييجو وأندريا، تعلمان أن الصداقة شىء ثمين جدا، وكل ما نعيشه لا يساوى شيئا إذا لم نجد من يبادلونا الحب بطريقة ودودة، ولذلك كان فخراً لأن يكون ابناى العزيزان أصدقاء لى. اليوم أقول لكما اعتنوا بالكتب جيداً وبالأوراق، حافظا على كلماتى التى تركتها، ولا تدعوا سريرى منتهكاً لأى شخص، أنا سأعود حتماً. أين سأذهب؟ وهل يسعنى عالم غير هذا؟ لكننى فقط أشعر بالنعاس وأريد أن أكمل الحلم. نسيت أن أطلب منكم يا أولاد أن تبحثوا عن القمر وتعيدوه إلى أمه السماء، اطلبوا منه أن يسامحنى إن كنت شغلت عنه ببعض الأحلام، فهو صديق جميل، ومارا لاتنسى أبدا أحبابها، ولذلك تركت لكم صورة التقطتها من هنا لإيتاجى وهى لاتزال عذراء فى الطبيعة تقدم كل شيء على الكمال والاسترخاء، إننى لا أضمن محفوظات الذاكرة قد أكون بعيدة لفترة ولكننى أعلم أننى سأعود حتما، القبلات لكم جميعاً. فلاتصدقوا إشاعات الطبيب، ولا تصدقوا أى شخص يقول غير أن مارا تحب الحياة، فمارا ليست مريضة بالسرطان.