وسط الأحداث المتلاحقة التى تشهدها مصر يتأمل المرء «جذور الأزمة» ليراها تنحصر بسؤالين: مسألة الهوية، ودوافع قطاع من المصريين لتبنى الأفكار المتعصبة، ومبررات الإلحاح على التطرف وتراجع التسامح.
أما الهوية فكنت أحسب أن ثورة 1919 حسمتها حينما تعانق الهلال والصليب تحت راية إعلاء الانتماء الوطنى، فيما قاله مكرم عبيد، وما كتبه أستاذ الجيل أحمد لطفى السيد الذى عاش ينادى بتحديد مفهوم للشخصية المصرية، رافضًا تبعية مصر للخلافة العثمانية، ولعل أهم ما تبناه بشجاعة نادرة هى الدعوة للقومية المصرية كأساس لثقافة المواطنة، وظل يُلّح على تعليم المرأة حتى تخرجت خلال رئاسته للجامعة أول دفعة من الطالبات عام 1932.
وقاوم الحركات السياسية المستندة لأسس دينية، مؤكدًا أن الرابطة الوطنية يجب أن تكون أساس الجهود السياسية والفكرية، فآلاف السنين من عبق التاريخ المصرى مُزجت مع الحاضر لتكوّن شخصية مصر الفريدة، وذهب لأبعد من ذلك بقوله إن الأجانب الذين تمصروا صهرتهم الحضارة وأصبحوا مصريين، تربطهم أواصر أعمق من جذورهم ومعتقداتهم.
كانت مصر حينذاك ملاذًا آمنًا لليهود المضطهدين بأوروبا، ومناخًا سمحًا جذب اليونانيين والإيطاليين والأرمن وغيرهم وشكّل التنوع ثراء حضاريًا وازدهارًا اقتصاديًا، فعرفت مصر «بيزنس المول» فى محلات صيدناوى وعمر أفندى وغيرها قبل ظهوره فى الغرب والشرق. وازدهرت الفنون والآداب وبلغ التسامح مداه، ففى البناية الواحدة أقامت أسر مسلمة ومسيحية ويهودية، وشهود هذه المرحلة يذكرونها بحنين جارف، فلماذا تضيق مصر الآن حتى بأبنائها المختلفين سياسيًا ودينيًا؟ إنه «هوس التعصب» الذى ترجع جذوره لمرحلة بعد هزيمة 1967 فالانتشار الهائل للحركات المتعصبة بلغ ذروته خلال السبعينيات ليعبر عن اكتمال الهزيمة وتغلغلها فى نفوس المصريين. ولعل الانتشار السرطانى لهذه الحركات أخطر مظاهر «تشويش الوعى»، فبعد ستة عقود من الحكم الشمولى المستبد، والسياسات المتخبطة واستخدام العُصاب الدينى بمعترك السياسة، أدى لانحياز قاعدة عريضة لأسهل البدائل التى تُغنيها مشقّة الحوار والتفكير، فأمير الجماعة يمنحها «اليقين الكامل»، وهذه أبرز ملامح الانحطاط الحضارى بتاريخ الأمم. حملت ثورة 25 يناير بارقة أمل حينما احتضن الميدان الجميع ليحقق حلمًا مثاليًا ناضلت لأجله أجيال، وتراجعت ثقافة الإقصاء والتخوين، لكن سرعان ما تبدد هذا الحلم أمام أول استحقاق سياسى، بالاستفتاء الذى كشف مدى تجذر صراع الهوية، فاستدعى خطاب حركات الإسلام السياسى على تنوع مشاربها الهويات الدينية، وتحول الفعل السياسى لاقتراع طائفى بغيض. وبعدما تكاتف المصريون لإطاحة مرسى وإخوانه، حولت جماعته الصراع السياسى لأبشع أشكال الطائفية بوصوله للقتل على الهوية، مما يؤكد أن جوهر صراع الهوية كالفيروس الكامن، وستظل الإشكالية قائمة حتى يواجه المجتمع والحاكم المرتقب الأزمة بشجاعة، وهى ببساطة تقديم الهوية الوطنية على ما عداها.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
ثابت الدسوقى
نقطة نظام لو سمحت