نقلا عن اليومى..
فى فيلم «على من نطلق الرصاص» يرن جرس التليفون فى مكتب وكيل النيابة «عزت العلايلى»، ليأتيه خبر وفاة مصطفى حسين «محمود ياسين» فى المستشفى متأثرًا بجراحه، فينعكس الخبر الموجع على وجه سعاد حسنى المترع بمشاعر شتى. فى هذ اللقطة التى لم تفتح فيها نجمتنا فمها بكلمة واحدة، نتابع محزونين أثر الرحيل المباغت للشاب الذى أحبته، وخشيت من ثوريته، فتزوجت غيره، هذا الشاب نفسه هو الذى أطلق الرصاص على زوجها «جميل راتب»، رجل الأعمال المشبوه الغارق فى الفساد، والذى دبر لاغتيال خطيبها الأول «مجدى وهبة»!
هنا سر عبقرية سعاد حسنى.. وجه قابل للتلون، والقفز بين الانفعالات المختلفة بيسر وسهولة، فما يعتمل فى صدرها تبديه العينان الواسعتان بسرعة خاطفة، سواء كان الأمر مفرحًا أو محزنًا، فسعاد.. بارعة فى تجسيد حالة المرأة القلقة.. الحائرة.. المضطربة.. الخائفة.. العاشقة.. العنيدة.. الخانعة.. المقاومة.. كل ذلك بتعبيرات مقتصدة وصادقة وحقيقية، لا غلو فيها ولا إسراف.
نعيمة البريئة
يجب أن نذكر بكل امتنان القاص والصحفى والمبدع الراحل الكبير عبدالرحمن الخميسى «1987/ 1920» لأنه أول من اكتشف موهبة سعاد، وقدمها للمخرج بركات ليمنحها البطولة أمام محرم فؤاد فى فيلم «حسن ونعيمة/ عرض فى 2 مارس 1959»، فى هذا الفيلم لم تكن سعاد قد بلغت عامها السابع عشر بعد «مولودة فى حى بولاق بالقاهرة فى 26 يناير 1943»، ومع ذلك اجتهدت قدر طاقتها لتقنعنا بأنها فتاة ريفية عاشقة لم تتركها المقادير والخطوب لتنعم بالزواج ممن تحب!
امتلكت سعاد وجهًا صبوحًا، تتوسطه عينان مشرقتان على الدوام، حتى لو كانت الهموم تنهب روحها، فالبراءة تطل من هاتيك العينين، بحثًا عن الدفء والأمان، والخجل يقطر من اللفتة الرقيقة، والحياء يسيل من الإيماءة البسيطة، وإن كنت ترى أن المبالغة فى أداء سعاد كانت فاقعة نسبيًا فى «حسن ونعيمة»، فذلك يعود إلى بكارة تجربتها مع فنون التمثيل، هذه البكارة التى ظلت تصاحبها فى عدة أفلام قليلة تالية، مثل «البنات والصيف لفطين عبدالوهاب/ 28 مارس 1960/ غراميات امرأة للمخرج طلبة رضوان/ عرض فى 3 سبتمبر 1960»، حتى تخلصت منها تمامًا، وغدت ممثلة محترفة تتفهم دورها جيدًا، وتتقنه إتقانًا يجعل كل من يراها يصدقها على الفور، وهنا تحديدًا تكمن عبقرية الممثل الناجح!
ابنة ثورة يوليو
فى ظنى أن السينما أحد أجمل اختراعات الإنسان، ففضلا على كونها تعطر مزاجه بالتسلية، وتغذى روحه بالجمال، فإنها تعد وثيقة نادرة المثال عن زمن وعصر، فالمشاهد الحصيف يستطيع أن يستنبط من السينما أهم ملامح الزمن الذى أنتج فيه هذا الفيلم أو ذاك، وعليه يمكن القول بيقين كبير إن سعاد حسنى أقرب نموذج للفتاة المصرية فى عهد ثورة يوليو الممتد من منتصف الخمسينيات حتى موت عبدالناصر فى 28 سبتمبر عام 1970.
فى تلك الحقبة فتحت الثورة الباب للتعليم المجانى، فدخل الملايين من بنات الطبقات الوسطى والفقيرة الجامعات، وحلمن بأن يشاركن فى بناء النهضة المصرية الحديثة التى حاول عبدالناصر والذين معه تأسيسها. هكذا إذن خرجت الفتاة من البيت لتتعلم وتعمل، وتذهب وتجىء، متحررة من أفكار العصور الوسطى، ومتخففة من ملابس القرون المملوكية العثمانية.
فى هذه الأجواء الضاجة بالآمال والأحلام، لاحت سعاد حسنى بوصفها أنصع نموذج للفتاة العصرية التى تتلقى العلم فى الجامعة، وتشارك فى العمل، وتتعامل مع الحياة باعتبارها نعمة ومتعة، وليست نقمة وعقوبة.
عشرات الأفلام قدمتها سعاد حسنى فى حقبة الستينيات، وكلها تقريبًا تجسد فيها دور الفتاة المتعلمة، المرحة، المقبلة على الحياة، صحيح أن كثيرًا من هذه الأفلام اتسم بالخفة فى التناول، والسذاجة فى المعالجة، حيث اهتم صناع السينما بجنى الأرباح على حساب القيمة، وقد استثمروا الحضور الطاغى لسعاد على الشاشة من أجل زيادة أموالهم، إلا أن هذه الأفلام منحت المشاهدين - وما زالت - مساحة كبيرة من البهجة والحبور، نظرًا لما تحتويه من مشاهد طريفة، ولقطات مرحة كشفت لنا الوجه المشرق للنجمة المتفوقة على الدوام.
أفلام خالدة
أكثر من 90 فيلمًا قدمتها سعاد حسنى، كثير منها يصمد أمام الزمن، ويهب مشاهديه متعة صافية، ولأن المساحة محدودة كما تعرف، فسأتوقف عند بعض هذه الأفلام المتميزة، لنكتشف معًا الموهبة الفياضة لهذه الفنانة الاستثنائية.
مع صلاح أبوسيف تصدت سعاد لبطولة فيلمين من أهم كلاسيكيات السينما المصرية، الفيلم الأول (القاهرة 30/ عرض فى 31 أكتوبر 1966)، والثانى «الزوجة الثانية/ عرض فى 14 أكتوبر 1967».
يقول الناقد الكبير كمال رمزى عن سر سعاد حسنى فى كتابه «نجوم السينما
العربية»: «شىء ما يتلألأ فى روح سعاد حسنى، ويظهر جليًا على الشاشة، ويبدو كسر من الأسرار التى يصعب إدراكها أو تفسيرها.. إنه ذلك النبل الخاص الذى يلتمع للحظة فى العينين، مهما كان إذلال الموقف الذى تعايشه».
تنطبق هذه العبارة بحذافيرها فى كثير من مشاهد فيلم «القاهرة 30»، فهى فتاة ولدت فى بيئة ضعضعها الفقر، ونهشتها أنياب الحرمان، أما الأب فمحروم من الأخلاق، ولا يوجع ضميره إن صارت ابنته عشيقة للرجل الثرى، أما أمها فتحرضها تحريضًا على ارتكاب الفواحش مادامت ستجنى من ورائها المال الوفير. تتمزق روح سعاد بين حلمها فى أن تعيش حياة كريمة مع حبيب القلب «على طه»، تظلهما أشجار الغرام وبساتين المعرفة، لكن مطرقة القدر أقوى، فتضطر إلى الزواج من شاب بائس «حمدى أحمد»، يقوم بدور الزوج والقواد فى الوقت نفسه.
من فضلك.. تأمل ملامحها وهى ترتدى أسمالًا بالية وتتذوق الشمبانيا وتتناول الشوكولاتة فى بيت أحمد مظهر، ثم عاين لفتاتها وهى «هانم» تذهب لتزور حبيب القلب المصاب.. يا سلام يا سعاد، لقد لاحت فى المشهدين كشخصيتين مختلفتين تمامًا، برغم أنك تتعاطف معها فى جميع الأحوال.
الزوجة الثانية
فى لفتة ذكية ينتشل صلاح أبوسيف سعاد من أحياء القاهرة المثخنة بجراح الفقر والحرمان، ليقذفها فى أحضان الريف المصرى المحتشد بالبؤس المزمن، أيام كان العمدة والمأمور وأصحاب الأطيان يأكلون مال اليتامى، ويتركون الفلاحين عرايا منهكين بالكاد يتحصلون على قوت يومهم.
إنه الفيلم التحفة «الزوجة الثانية» الذى استوت فيه سعاد حسنى فلاحة مصرية شابة، تتعرض لمكيدة حقيرة لتطليقها من زوجها الذى تحبه، ليتزوجها قهرًا العمدة «صلاح منصور»، الباحث عن ابن يرث ماله الحرام!
يتنوع أداء سعاد فى هذا الفيلم بمهارة مدهشة.. فمرة خادمة مسحوقة، ومرة زوجة عاشقة تدبر حيلة لمواجهة جبروت العمدة الظالم «صلاح منصور»، ومرة تستثمر افتتان العمدة بها، فتكيد ضرتها «سناء جميل»، وهكذا، وفى كل لقطة.. فى كل مشهد.. تتعاطف مع هذه الممثلة الفاتنة وتصدقها، وليتك تذكر مشهد ليلة زفافها على صلاح منصور، وماذا فعلت حين فوجئت بزوجها الحقيقى «شكرى سرحان» مختبئًا تحت السرير! إن سعاد حسنى طاقة فنية جبارة، ولما قيل إنها انتحرت فى 21 يونيو 2001 لم يصدق الناس الخبر المشؤوم، وظلوا يتساءلون فى حيرة: كيف تقدم على الانتحار من منحتنا كل هذه البهجة؟
محمد غنيم يكتب :بارات وسط البلد.. حانات القاهرة القديمة!..الأجانب المقيمون بالقاهرة يسهمون فى إنشاء العديد من البارات على النمط الأوروبى
وفى ذكرى الغياب.. تبقى سعاد أخت القمر..جسدت شخصيات ابتكرها محفوظ وإحسان والسباعى وعبدالحليم عبدالله
عطر الأحباب.. 13 عاما على رحيل فاكهة الشاشة الفضية.. سعاد حسنى.. باقة فاتنة من المشاعر الفياضة.. امتلكت النجمة الساحرة الوجه الصبوح الذى يفصح ويبوح!
الجمعة، 20 يونيو 2014 11:49 ص
سعاد حسنى
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة