طلق الأب زوجته «أم سعاد حسنى»، وتزوجت من آخر، عاشت مع أمها وزوج الأب، كان لهذا الزوج «المثقف» «عبدالمنعم حافظ» علاقة بـ«عبدالرحمن الخميسى» منذ سنوات ثم تباعدا، والتقيا مرة ثانية ودعا الزوج الخميسى لزيارته فى بيته بـ«شبرا».
يتذكر «الخميسى» هذه اللحظات قائلا: «كانت سعاد حسنى حين دخلت البيت واقفة لصق حوض مياه فى الممر، تغسل بعض ملابسها، وتدعكها دعكا بيديها، وخصلات شعرها تغطى جبينها، وأجزاء من وجهها، ولم أكن أدرى لحظتها أن جدائل شعرها المنسكبة، تختزن وراءها تلك اللؤلؤة النادرة المثال، والتى أصبحت تخلب بالفن قلوب الملايين».
رق قلب «الخميسى» لـ«سعاد»، حدث نفسه أنه لابد أن تكون هذه المسكينة شربت من نفس كأس العذاب الذى شربت منه شقيقتها «نجاة»، وما إن فرغت من غسل ملابسها حتى جلس الخميسى إليها يحادثها، فلاحظ أنها تجهل العربية الفصحى وكتابتها، وعرف أنها انقطعت عن الدراسة امتثالا لقسوة والدها.
رآها «الخميسى» بعين المكتشف، فبدأت رحلته معها والتى كتبها بخط يده ونشرتها صحيفة «العربى» فى عام 2001، ويشرح فيها كيف أنه أسند أمر تعليمها القراءة والكتابة للفنان «إبراهيم سعفان» دارس اللغة العربية، وإشراكها فى فرقة مسرحية كان قد شرع فى تكوينها.
استمرت «سعاد» فى متابعة الدرس، فقطعت مرحلة طويلة فى زمن قصير، واقترح «الخميسى» عليها بعد المرحلة الأولى من التعليم، أن تبدأ بقراءة القصص ذلك لأنها من خلال مطالعتها ستختصر مسافات طويلة، وسيتاح لها تطبيق النحو والصرف على موضوع أدبى شيق، وستغنم المتعة الذهنية والفائدة، يعلق «الخميسى»: «هكذا حسبت أن تعليم الكبار اللغة من خلال القصص، يكون أقدر على اجتذابهم، وأيسر لهم وأكثر مناسبة لعقولهم».
لم تنتظر سعاد حتى يشترى لها أحد كتابا قصصيا، بل أنها بنفسها اتجهت إلى إحدى المكتبات واشترت عددا من الكتب، كان عقلها يريد أن يلتهم كل شىء، وكانت أسئلتها تنهمر كالمطر على الخميسى كلما رآها: «لماذا هذا؟ ما السر وراء تلك الظاهرة؟، ماذا تعنى هذه الكلمة، ما عدد اللغات فى العالم؟، كم شعب على سطح الكرة الأرضية، كيف اخترعوا الكهرباء؟».
كان نهمها على المعرفة يتزايد، وكان وجهها الصبوح يتألق جمالا، ويصفها الخميسى: «كنت ألحظ وجهها يتورد وعيناها يزيد صفاؤهما، وحركتها تصبح أكثر خفة، ولاح لى أنها أخذت تتغير، لم تعد ذلك الطائر الذى بلله المطر، فتكوم مستجمعا جسمه تحت جناحيه على كرسى فى البيت، لقد رفعت رأسها، وجعلت تمشى باحثة فى الليل عن وجه الصباح بشغف كبير، كانت أكبر من أن يتناولها أو يلم بها الوصف، تلك السعادة الغامرة التى ملأت قلبى، وأنا أشاهد سعاد حسنى تنمو أمامى يوما بعد يوم، وتتفتح قدرتها، ويشرق حبها لأن تعرف، ويزداد نهمها لأن تتعلم وتتعلم».
بينما كان «الخميسى» يولى اهتمامه الكبير بـ«سعاد»، كان هو يكتب مسلسل «حسن ونعيمة» للإذاعة، كان يسلم الحلقة للإذاعة فى نفس يوم إذاعتها، ونجح المسلسل، وجاءت فكرة تحوله إلى فيلم سينمائى، وصمم «الخميسى» على أن تكون لؤلؤته «سعاد» هى بطلة فيلمه مع «محرم فؤاد» وكان وجها طازجا لم يمثل من قبل، كما أن موهبته الغنائية كانت لا تزال حديثة.
نجح الفيلم، ومنه دخلت «سعاد» عالم السينما، وبعدها عالم الحب، كان عبدالحليم فى هذا التوقيت يقود الغناء تجديدا، ويقود شعبا بصوته كما يقول الشاعر نزار قبانى، ويتفاخر بأصوله الاجتماعية الفقيرة، يقول إنه يحمل فى جسده مرض البلهارسيا الذى يحمله الفقراء، كان الفخر بالأصول الفقيرة يتباهى به رئيس الجمهورية جمال عبدالناصر، فلا يترك مناسبة إلا ويتحدث فيها عن أصوله الاجتماعية، مؤكدا على أنه ابن موظف بريد فقير من بنى مر، وأن باب الفقراء أصبح مفتوحا ليكون من بينهم رئيس جمهورية.
هكذا كان أيضا «عبدالحليم حافظ»، وكانت «سعاد حسنى»، من نفس الطبقة الاجتماعية، صحيح أنهما من بيئة اجتماعية مختلفة، فـ«عبدالحليم» هو ابن قرية «الحلوات محافظة الشرقية» بما كانت تحمله من طقوس وأوضاع اجتماعية يحكمها ثلاثية «الجهل والفقر والمرض»، كانت الترعة مثلا بمثابة «المصيف» له ولأقرانه، أما سعاد فهى بنت «مدينة» ومن الطبيعى أن واقع المدينة يفرض عليها وعيا مختلفا، غير أن الملاحظ أنه لم تكن هناك مسافة بين هذين العالمين فى حالة «عبدالحليم» و«سعاد»، بل كان هناك ما يجمعهما فى الأصول الاجتماعية، «فالاثنان ذاقا الحرمان وقسوته».
فتح عالم السينما قلبه لـ«سعاد حسنى» بعد نجاحها فى «حسن ونعيمة» وكان رصيد «عبدالحليم» السينمائى وقتئذ 13 فيلما سينمائيا آخرها «شارع الحب» مع صباح وحسين رياض وعبد السلام النابلسى وزينات صدقى وحسن فؤاد، وفى فيلمه «البنات والصيف» عام 1960، صارع من أجل أن تقوم «سعاد حسنى» بدور حبيبته، لكن هذا الاقتراح لم يلق قبولا من القائمين على الفيلم، ومنهم المؤلف إحسان عبدالقدوس الذى كان يحظى بمنزلة كبيرة عند «عبدالحليم».
كان «إحسان» واحد من كتيبة ساهمت فى تكوين « عبدالحليم» سياسيا وثقافيا وشخصيا، يقول رفيق عمره ورحلته «مجدى العمروسى» فى كتابه «أعز الناس»: كنا نذهب إلى دار روز اليوسف، ونسهر مع إحسان عبدالقدوس وفتحى غانم وجمال كامل، وباقى العاملين فى الدار حتى يغادروا مكاتبهم، ونحن نتنقل من مكتب إلى آخر، ونتواجد داخل الأحداث الصحفية والأخبار الجديدة، وكيف تتعامل الصحافة مع السياسية، والسياسة مع الصحافة، وكنا نعيش المجلة وهمومها، وتعلم عبدالحليم أن يكون واعيا بالأحداث حوله، وأن يكون دقيقا متيقظا فى معاملاته، ولا شك أن عبدالحليم تعلم خطواته الاجتماعية الأولى من إحسان عبدالقدوس، وتفتحت عيناه على الدنيا الخارجية عن طريقه، وكانت أولى سفرياته لخارج مصر مع إحسان وكمال الطويل إلى السويد، والذى حدث فى روز اليوسف حدث فى مدرسة أخبار اليوم، وبدأت صداقة عبدالحليم مع مصطفى أمين، وكامل الشناوى ومحمد حسنين هيكل وأنيس منصور وصانع النجوم جليل البندارى وفوميل لبيب، وموسى صبرى، ومصطفى حسين، وأحمد رجب الذى ارتبط برباط شديد مع عبدالحليم، كانت هذه المجموعة تسهر كل أربعاء فى بيت مصطفى أمين، وأطلق عليها كامل الشناوى «صالون الأربعاء»، وكان يحضرها كمال الطويل، وفى بعض الأحيان، أم كلثوم، وزوجها الدكتور حسن الحفناوى ومحمد عبدالوهاب وزوجته نهلة القدسى، وكانت أحاديثها عن الفن والسياسة والثقافة والأدب، ويجلس فيها عبدالحليم مستمعا ومنصتا.
فى مقابل هذه الكتيبة التى ساهمت فى تكوين وعى «عبدالحليم حافظ» كانت الكتيبة التى تصنع وعى «سعاد حسنى» شخص واحد هو عبدالرحمن الخميسى بكل مواهبه، كان، مؤلفا، ممثلا، مخرجا، موسيقيا، كاتبا، شاعرا، سياسيا، ناصريا، يساريا، قديسا، صعلوكا، أى كتيبة مواهب، من بينها أيضا وهو الأهم أنه كان محبا للحياة، يعيشها بالطول والعرض، ذات مرة، سأل الكاتب الصحفى يوسف الشريف، الشاعر كامل الشناوى: «هل تمنيت يوما أن تكون غيرك؟»، أجاب فيما يشبه الحسرة أو الحسد: «تمنيت أن أكون على شاكلة الخميسى، ألوى ذراع الحياة كلما عاندتنى، الخميسى فى الحقيقة هو التجسيد الحى لواقع أحلامى التى لم تتحقق أبدا».. وغدا نستكمل.
من دفتر حكايات الحب ..السندريلا والعندليب ..عبدالحليم حافظ يفشل فى إقناع صديقه إحسان عبدالقدوس بـ«سعاد حسنى» ..سعاد يزداد نهمها للتعلم بفضل «الخميسى».
الأحد، 06 يوليو 2014 12:53 م
السندريلا