لعل المتأمل فى فكر المصلحين والمفكرين منذ قرون يجد دعوة ظاهرة إلى أن من سبل الوصول إلى التقدم الثورة من أجل الإصلاح السياسى، وقد يدلك على ذلك الشغف الشديد بتلك الثورات التى خرجت من بيننا، أقصد ثورات الربيع العربى، والتى دعت إلى الثورة على الحكم الفردى، وكأنى بشباب العالم وقد أعجبوا بما حوته تلك الثورات من اختيار الظروف المواتية التى ترقبتها الشعوب الشرقية من مستعبديها، وهى تلك الظروف التى يبلغ فيها هذا المستبد أوجه ضعفه وخوره وعلله وانهزاميته.
لقد كانت أهداف الثورات العربية واضحة المعالم، ذلك أن الأهداف الغامضة توقع انقساماً بين القائمين على أمر هذه الثورة، كل ذلك فى ضوء مشاركة الشعب كله فى تحقيق هذه الأهداف.
وإننا نجد تطبيقًا علميًا لتلك الأفكار التى خرجت من تحت عباءة المصلحين من أمثال: الكواكبى وشكيب أرسلان ومحمد عبده وغيرهم كثير، وقد ظهر ذلك جليًا فى ثورات مصر وتونس واليمن خاصة، فضلاً عن أننا نرى الأمر ذاته فى نموذج الثورة الفرنسية، حيث إنها استغلت أنسب الظروف المواتية للوصول إلى حكم البلاد، فضلاً عن أنها أشركت الشعب كله فى الدعوة إلى الإخاء والمساواة والحرية، فأصبح الشعب كله مدركاً لقيمة نفسه مؤمناً بدوره فى بناء حياته الجديدة. ولعلنى لا أذيع سرًا إذا قلت إن هذه المبادئ قد دعا إليها الإسلام، وحث على تفعيلها بين الحاكم والمحكوم، ولذا وجدنا من الباحثين من يرى أنه فى جو الحرية ينمو العدل وتترعرع المساواة، كما ينمو النبات ويترعرع فى ضوء الشمس وحرارتها.. والعدل والمساواة مبدآن أصيلان فى الحياة الإسلامية، كما يجب أن يكون كذلك فى كل مجتمع كريم على نفسه .ولكن هذا لا يمنع من أن يكون للشعب دوره فى إرساء وتثبيت هذه المبادئ، حيث إنه يعد السبب فى نجاح الثورات الكبرى، فالثورة الفرنسية فى مطلع القرن الماضى، فإنها كانت ثورة شعب بأسره، وقد استطاع قادتها أن يشغلوا هذا الشعب وأن يشعروه بأنه هو الذى سينشر مبادئ الحرية والمساواة والإخاء بين بقية الشعوب الأوروبية بعد أن تتخلص مثله من الاستبداد السياسى والروحى.. كذلك كان للشعب كلمته فى النموذج المشابه الذى نراه متمثلاً فى ثورات الربيع العربى.
وإن كان لى من تعليق هنا فإنه يمكننى القول إننا سيرًا وراء كبار المصلحين نضع العرب أمام المسئولية خاصةً وقد أعادوا إلى أنفسهم – بما قاموا به من ثورات - الثقة المفقودة فى قدرتهم على المساهمة فى النهوض ببلادهم وأمتهم، وإذا كنا قد اتخذنا مثالاً حياً على خروج العملاق من مخبأه للوقوف ضد القهر والاستبداد، وهو الثورة الفرنسية التى غيرت المعالم الأوروبية السياسية العتيقة, واستطاعت أن تزيل عرش البابوية والملكية الذين كان لهما عامل كبير فيما وصلت إليه أوروبا من تدهور فى العصور الوسطى، محاولة بذلك أن تستنفر الهمم لنيل نصيبها الذى تستحقه من التقدم والازدهار، فإننا نرى نموذجًا حيًا لا يقل عنه فى أهميته وأثره وهو نموذج ثورات الربيع العربى.
غير أنه من الواضح من خلال معالجتنا لمسألة الإصلاح السياسى أننا نجد خيطاً واضحَا يتمثل فى ضرورة عدم قيام الإصلاح السياسى على أسس إلحادية أو أفكار لا تتناسب مع طبيعة هذه الشعوب المتدنية التى لا ترضى عن الدين بديلاً فى قلوبها، ونحن فى أسلوبنا هذا نحاول أن نؤكد أيضاً على ضرورة البعد عن النزاعات القومية والمذاهب الشخصية .
ولكن كيف يكون الإصلاح السياسى؟ أو ما الخطوات التى يقوم عليها الإصلاح السياسى؟ يمكن القول تبعاً لفهم السياق العام فى هذه الفكرة أن نستنتج الأفكار الآتية والتى تعد – من وجهة نظرنا - الطريق الصحيح نحو هذا النوع من الإصلاح المنشود:
أ - ضرورة القضاء على الجمود بكافة أشكاله التى تؤدى إلى إيقاف حركة التقدم فى كل ركن من أركان المجتمع، وذلك بالثورة عليه سواء أكان هذا الجمود جمودًا سياسيًا أو جمودًا فكريًا .
ب - القضاء على التدخل الأجنبى الخارجى فى الحكم، لأن الدول لها استقلاليتها ونفوذها على أراضيها ورعاياها ولا ينازعها فى ذلك دولة ما أيًا كانت.
جـ- التمسك بحكم الشورى فهذا أفضل الوسائل التى تتيح حرية التعبير عن الرأى، وما يستلزمه ذلك من ضرورة وجود أساليب الحكم النيابى، فتلك من أهم الفروق التى تمتاز بها الأمم الغربية .
د- تحقيق الوحدة السياسية بين الأقطار العربية، لأنها ضرورة توجبها العوامل التاريخية التى تكتنف العرب فى عصور التدهور.
وأما عن شكل هذه الوحدة، فإننا نذهب إلى أن تحقيق الخلافة فى العصر الحديث على منوال ما كانت عليه فى أيام الخلفاء الراشدين أمر يكاد يكون مستحيلاً، ومن ثم فقد نقنع – وهو ما يوجبه أمر الحال والمآل – بأن تنشئ البلاد العربية اتحادًا عاماً شبيهاً بالنظم السياسية الحديثة لبعض الأمبراطوريات الكبرى فى عصرنا، فلابد أن تكون الوحدة – على حد تعبير أحد الباحثين – وحدة اندماجية لا تنسيقية.
ه - لا بد من العمل على مبدأ تداول السلطة، فلا ينبغى أن يكون المنصب مخلدًا لأحد – ولا لأهل أحد -حتى الموت، وهذا وإن كان واجبًا فى المناصب الصغيرة، فهو أوجب ما يكون فى منصب الحاكم، فالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لم يستخلف أحدًا لحكم المسلمين بعد موته، كما أنه لم يجعل من قيادة الجيش أحدًا بعينه حتى الموت، وإنما كان نبراسًا فى تداول السلطة عندما أمر أسامة بن زيد على قيادة الجيش وهو ابن الثامنة عشر من عمره رغم أن الجيش كان يزخر بالقادة العظام من أمثال: أبى بكر وعمر وعثمان وعلى رضى الله تعالى عنهم أجمعين. ويكفى أن نعلم أنا أبا بكر فى بداية حكمه خطب فى الناس قائلاً "أطيعونى ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لى عليكم.. بما يعنى أن أباح للناس الخروج على الحاكم وعدم الانصياع له إذا ما ظهر لهم ما يضر بصالح المسلمين.. وانظر إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه عندما تولى الخلافة قال: إذا أخطأت فقومونى".
و– ضرورة وجود أحزاب سياسية قوية من العوامل المهمة فى الإصلاح السياسى بأى قطر من الأقطار، لأن المعارضة الحقيقية هى الميزان الذى تزن به السلطة الحاكمة سياستها، وتكشف لها مقدار ما ينطوى على توجهاتها من إيجابيات وسلبيات، ثم لا نود أن الأحزاب الموجودة على الساحة أحزاب كرتونية؛ لأن ذلك لا يخدم عملية الإصلاح السياسى، كما أنه لا يخدم المجتمع ككل.
ز – تثقيف الشعب سياسيًا من أهم مبادئ الإصلاح السياسى، وهنا لا بد أن يكون للإعلام الهادف دور محمود فى ذلك، مع ضرورة التأكيد على نشر الوعى السياسى فى جنبات الوطن خاصة فى المناطق العشوائية والمناطق الفقيرة، ويكون محور عملها حول الموضوعات الآتية: المشاركة السياسية الفعالة طريق تقدم الوطن، الحوار السياسى لا النزاع السياسى أساس العملية السياسية، الحقوق السياسية للمواطن والواجبات، توضيح بعض المواقف السياسية دون تحيز، الحزبية السياسية للمواطن لا تعنى الانشاق والفرقة.
ومن هنا تبدو مقولة الإصلاح السياسى أمرا طبيعيًا ومقبولاً وسهل المنال، فالإصلاح السياسى ليس يوتوبيا فارابية أو يوتوبيا أفلاطونية، وإنما هو أمر واقعى يمكن تحقيقه بتكاتف الجهود وإخلاص النوايا.
د.محمود كيشانه يكتب: الإصلاح السياسى بين الواقع واليوتيوبيا
الأحد، 31 أغسطس 2014 08:05 م
ورقة وقلم - صورة أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة